مراجعة لـ "كتابات هيكل" - بين الموضوعية والمصداقية -
للكاتب يحيى حسن عمر
الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع
مراجعة "كتابات هيكل"
.. قراءة سياسية أم شهادة تاريخية؟
تُعد كتابات محمد حسنين هيكل المرجع الأشهر والأكثر شعبية لمن أراد التعرف على تاريخ مصر الحديث والمعاصر. لكن، ورغم هذه الأهمية البالغة، ظلت المكتبة الأكاديمية العربية تعاني من ندرة الأبحاث النقدية التي تُخضع إنتاج هذا الكاتب لآليات التقييم المنهجي. وهنا يأتي دور كتاب "كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية" ليُشكل إضافة نوعية تُجيب عن السؤال المركزي: هل كانت كتابات "الأستاذ" تأريخاً أم قراءة سياسية أيديولوجية؟
ولقد نجح الكاتب يحيى حسن عمر في تفكيك إرث هيكل الهائل عبر منهجية صارمة، ليخلص في النهاية إلى حكم قاطع: كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل لا تُعد تأريخاً منهجياً، ولا شهادة تاريخية يُعتد بها، بل هي في المقام الأول قراءة سياسية أيديولوجية للتاريخ الناصري...
أولاً: النقد السياسي والذاتية (من رجل الموائد إلى الانحياز المرير)
كشف الكتاب عن ثلاثة أوجه رئيسية تُقوّض موضوعية هيكل:
1. رجل العهود الثمانية (الصحفي القريب من السلطة)
يوثق الكتاب كيف مارس هيكل دوره كـ "رجل موائد" كان على علاقة وثيقة بثمانية عهود سياسية متتالية، بدءاً من عهد الملك فاروق وحتى ما بعد ثورة يناير. وقد ظهر هذا جلياً في أسلوبه المبكر..
الولاء المبكر : في أول مقالاته، نجد هيكل يختتم مقالاته عن الملك فاروق بعبارات لا تخلو من مبالغة في الثناء مثل: "حقًّا إنها لساعة مجيدة يا مولاي... وإنه لعصر رائع مجيد"، و "رباطًا من الحب الخالد. صورة ملك. صورة شعب". هذا يوضح تكيّف لغته مع متطلبات كل عهد.
الانحياز الأيديولوجي: أثبتت الدراسة أن هيكل كان لسان حال السلطة، وقد تجلى انحيازه في علاقته بعبد الناصر، حيث أصبح "المدني الأهم بين الضباط الأحرار" كما وصفته أدبيات النقد.
2. تضخم "الأنا" وتشويه الخصوم
يُعد الفصل الثاني في الكتاب دليلاً على افتقار الكتابات للموضوعية؛ فالتحيز لم يكن سياسياً فقط، بل ذاتياً (شخصياً) مدفوعاً بـ "الأنا":
ذاتية الهزيمة والنصر: رصد الكتاب ظهور تضخم "الأنا" بوضوح عندما يتعلق الأمر بالحديث عن هزيمة 1967، حيث يقلل من مسؤوليته، بينما يظهر بطلاً متصدراً في الحديث عن نصر أكتوبر 1973.
الانحياز ضد السادات: يقدم الكتاب أدلة قوية على "الانحياز المرير" ضد السادات بعد خروجه من السجن، وصولاً إلى محاولات لتشويه صورته، مثل اتهامه بأسلوب التورية باغتيال عبد الناصر بالسم في القهوة، وهي رواية أجمع المعلقون على أنها لم تُسمع إلا بعد أربعين سنة من الحدث، مما يؤكد أن هيكل هو مصدر "البعض" الذي أسند إليه الاتهام الخطير.
ثانياً: المصداقية المنهجية (حكم الإدانة الأكاديمي)
خلصت الدراسة إلى أن كتابات هيكل لا تُعد شهادة تاريخية لأنها تفتقر إلى المحددات المنهجية للتوثيق، وقد وضع يحيى عمر خمسة معايير لـ نفي المصداقية، أبرزها:
الاحتجاج بالذاكرة: الاعتماد على الذاكرة الشخصية أو ذاكرة الآخرين دون توثيق.
استخدام المصادر دون تمييز: عدم التفرقة بين المصادر التاريخية والمصادر الإخبارية البسيطة.
تضارب الأقوال وتناقضها: كما في ادعائه المتضارب حول دوره الحقيقي في ثورة يوليو 1952، وتناقض روايته مع روايات الضباط الأحرار مثل اللواء جمال حماد.
الخلاصة النقدية: هذه المنهجية التي تعتمد على البلاغة والتأثير بدلاً من التوثيق، جعلت الكتابات تحوز شهرة شعبوية، لكنها تفقد قيمتها كمرجع تاريخي مُحكم.
ثالثاً: الأسلوب البلاغي كسلاح للإقناع والتوجيه
في أهم فصول الكتاب، كشف المؤلف كيف كانت عبقرية هيكل الأسلوبية مجرد أداة لإخفاء الأيديولوجيا وتوجيه القارئ:
التشبيهات والاستعارات الكثيفة أداة لتأثير فكري غير مباشر، ومحاولة لكسب استحسان القارئ عبر الجمالية (مثل تشبيه "مواكب الإشاعات تنساب في خِفَّةِ الأشباح").
براعة الاستهلال يوثق الكتاب أن هيكل كان يعمد إلى جعل الافتتاحية تأخذ منه جهداً مضاعفاً، ويدعم ذلك بـ إحصائية مذهلة: افتتح 138 مقالاً من 167 بـ الأسلوب الاستفهامي لجذب القارئ وربطه بالسؤال حتى النهاية.
السخرية المبطنة (التقريع المُغلف) استخدام التكرار المبالغ فيه للإطراء الشكلي كأداة هجوم سياسي؛ مثل تكرار "يا صاحبَ الجلالة" 157 مرة في مقال واحد عن الملك سعود، ليُستخدم التبجيل كوسيلة للتقريع القاسي بخصوص المؤامرات السياسية.
التكيّف اللغوي مع السلطة في العهد الملكي كانت لغته ناعمة، لكن بعد الثورة تحولت إلى لغة "خشنة وصريحة" تماشياً مع نبرة القيادة العسكرية (مثل وصف بيان أيزنهاور بأنه "بيان أعور").
المبالغة الفلسفية استخدامه المفرط لـ "التشبيهات التكرارية" في التعميم، مثل تكرار وجه الشبه "الانتحار" (من الإمبراطورية إلى الكلمة)، مما يجرّه إلى بعيد ويطغى على الموضوعية المطلوبة.
.. الخاتمة: الحكم النهائي...
إن مساهمة كتاب "كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية" هي مساهمة حاسمة في المكتبة العربية. لقد قدم تحليلاً دقيقاً وموثقاً باستخدام أدلة من قلب نصوص هيكل.
النتيجة النهائية كما خلصت إليها الدراسة:
تبقى كتابات هيكل ذات أهمية كبيرة، ليس لكونها "تاريخاً"، ولكن لأنها "المرجع الأشهر للقراءة السياسية الناصرية للتاريخ". إنها تظل ضرورية للتعرف على الفهم والتصور الأيديولوجي لتلك المراحل والوقائع.
.... منظور المؤرخين: يرى الكثير من المؤرخين المحترفين أن هيكل لم يكن "مؤرخاً"، بل كان "صحفياً مُساهماً في الحدث". وبسبب قربه من ناصر، كانت كتاباته أشبه بـ "وثيقة ذاتية شديدة الأهمية" (لكنها لا تحل محل المصادر التاريخية الرسمية)، أكثر منها مرجعاً تاريخياً محايداً.
الوصف الأنسب: يرى هذا التيار أن الوصف الأنسب لهيكل هو "الصحفي المُنظّر" أو "صاحب مدرسة في الكتابة الصحفية السياسية"، وليس "المؤرخ المنهجي". كتاباته هي وجهة نظر مُنظمة ومُؤدلجة قادمة من مركز السلطة...
وأخيرًا هذا الكتاب ليس مجرد نقد لشخص هيكل، بل هو دراسة منهجية لفهم كيف يمكن للصحفي الذي يتحول إلى "مفكر استراتيجي" أن يوظف الأسلوب البليغ والمكانة الشخصية (باعتباره صانعاً للسياسة ولسان حالها في بعض المراحل، كما أشار النقد الأكاديمي العام) في تدوين تاريخ يركز على ما يدعم قراءته الأيديولوجية وينفي ما يخالفها.
.. اقتباسات مهمة..
❞ “كان هيكل فخورًا بنفسه ومهنته، وكان ينفش ريشه خُيَلاءَ وهو يمشي وسط صالة تحرير الأهرام مُسْرِعًا إلى اجتماع (الديسك المركزي) في الرابعة عصر كل يوم، تَتْبَعُهُ نظراتُ إعجاب تلاميذه الذين كانوا يحاولون تَقَمُّصَ شخصيته بصور شتى.. لكن الكثير من هذا الخيلاء ذهب مع الريح بعد هزيمة 1967، خاصةً أن عناوين «الأهرام» كانت قد أَسْرَفَتْ كثيرًا في التَّبْشِيرِ بنَصْرٍ مُبِينٍ، يسدّ عين الشمس.. غير أن هزيمة مصر وقعت في غضون ست ساعات على نَحْوٍ صاعق، وغَيَّرَتْ كثيرًا من توجُّهات الأهرام ومواقف شبابه وشيوخه” ❝
❞ وتزداد العلاقات توترًا بينه وبين السادات عقب انتفاضة الخبز في يناير 1977 التي اندلعت بسبب زيادة أسعار بعض السلع الأساسية بطريقة فجائية، وتَخَلَّلَهَا بعضُ أعمالِ التخريب وقَطْعِ الطرق، واتَّهَمَ السادات اليسارَ بالمسؤولية عنها، وأَصَرَّ على أنها ليست انتفاضة شعبية وإنما (انتفاضة حرامية)، وكانت المكالمة الأخيرة بينهما عاصفة حين أراد السادات من هيكل أن يكتب مدينًا هذه الانتفاضة، ورَفَضَ هيكل معتبرًا أن لها أسبابًا اجتماعية واقتصادية ولا يجب أن تُعَالَجَ أَمْنِيًّا ❝
❞ أما من ناحية الكم، فقد قَدَّمَ الأستاذ هيكل خلال مسيرته أكثر من 1400 مقالةٍ وتحقيقٍ صحفي وحوار، منها أكثر من 300 مقالةٍ وتحقيقٍ صحفي في عَهْدِ ما قبل الأهرام (روز اليوسف، وآخر ساعة، والأخبار)((15))، ثم حوالي 745 مقالةً في الأهرام في الباب الشهير الذي حَمَلَ عنوان (بصراحة)، ثم حوالي 400 مقالة وتحقيق وحوار صحفي في فترة ما بعد ترك الأهرام وحتى الانصراف ❝
❞ “إن محمد نجيب هو قلب الثورة، وعبد الناصر هو عقلها، يجب أن يمضي القلب إلى مسعاه بين الناس ينشر الحب ويُبَشِّرُ بالمبادئ ويُوَثِّقُ الصلات، ويجب أن ينصرف العقل إلى التفكير والتدبير، وإلى تحديد المشاكل ورَسْمِ الخطط والإقدام على التنفيذ.. القوات المسلحة يجب أن تكون بعيدة على الحدود”((75)). ❝
❞ ثم أَطْلَقَ تعبيره الشهير (حوض السياسة في مصر قد جَفَّ)، واستطرد في شرح مقترحه بخصوص (مجلس أمناء الدولة والدستور) فاقترح أسماءً مثل (عمرو موسى) و(البرادعي) و(زويل) و(عمر سليمان) و(منصور حسن) تحت مظلة ورعاية القوات المسلحة والمشير طنطاوي، لكن ظلت تصوراته غامضة بشأن عمل هذا المجلس المقترح((192))،((193)). ❝
❞ ينفر كثير من المؤرخين الجدد وبعض من الباحثين من استخدام مصطلح (الموضوعية)؛ بدعوى أنه ليس هناك وجودٌ حقيقي للموضوعية في الكتابة التاريخية، وأن للمؤرخ - أي مؤرخ - قناعاته وموقفه الفكري، وبالتالي فليس للموضوعية وجود حقيقي((200))، وهذا قولٌ قُوبِلَ بتَحَفُّظٍ مُضَادٍّ؛ إذ ليس المطلوب من المؤرخ أن يُغَادِرَ قناعاته ولا رُؤَاهُ الأيديولوجية، ولكن عليه ألَّا يجعلها حاكمة على نَصِّهِ قائدة له((201))، ولما كان هذا من الصعوبة بمكان، فإنه يمكن القول بنَفْيِ الموضوعية المُطْلَقَةِ، أما نفي الموضوعية مُطْلَقًا فلا يجوز؛ إذ تَبْقَى الموضوعية رُكْنًا أساسيًّا في الكتابة التاريخية، فالموضوعية والمصداقية هما جناحا التَّأْرِيخ، بدونهما لا يعدو المكتوب كونه مجردَ صحائف سوداء ❝
❞ وفي المقابل فإن قارئ هيكل سيعرف الكثير جدًّا عن إنجازات العصر الناصري وأغلبها بصورة مكبرة، بينما لن يعرف شيئًا عن حقائق أزمة مارس 1954، وعن الإجراءات القمعية في الصحافة والجامعة وغيرها من مناحي الحياة في الخمسينيات والستينيات، وعن سوء الأداء العسكري خلال حرب 1956((215))، وعن تجاوزات حقبة الوحدة، وعن مآسي الحرب في اليمن، وعن حجم التعذيب والتجاوزات في حقبة الستينيات، وعن كم التقصير في حرب 1967((216))، وغيرها، ولن يعرف - حتى عَبْرَ مرحلة نقد التجربة التي تَلَتْ نكسة 1967 - إلا القليل عن أخطاء هذا العهد، وفي صورة محصورة في الغالب بأمثلة محددة والعكس صحيح بالنسبة للعهد الساداتي وبصورة ❝
❞ وتردُد هيكل بين رغبته في المضي قدمًا في نقد التجربة الناصرية من باب سد ثغرة موضوعية في كتاباته، وبين خشيته وضيقه من استخدامها أيديولوجيًّا ضد الفكرة الناصرية - بل ضده شخصيًّا - هو الذي يقوده أحيانًا نحو التخبط في مسيرته النقدية تلك، فما يثبته في موضع ينفيه في آخر، وما ينتقده في موضع يدافع عنه في آخر، والأمثلة في ذلك كثيرة، ومنها حديثه عن الضربة الجوية الإسرائيلية في عام 1967، فقد ذكر عقب 1967 من خلال صياغته لبيان التنحي أن الضربة جاءت أساسًا من الغرب من قواعد غربية في ليبيا وغيرها، وكتب في مقالته الأولى أن الضربة الأولى الإسرائيلية كانت ❝
❞ واقعة تَقْبِيلِ النحاسِ باشا يَدَ الملك فاروق:
رغم أن هذه الواقعة لا يُثْبِتُهَا أي مرجع معروف، فإن “هيكل” يُصِرُّ على أن يُقَدِّمَهَا في الصدارة في عدة مناسبات، واصفًا إياها بمشهد (الذروة) في مأساة السياسة المصرية. ❝
#فنجان_ومراجعة_كتابات_هيكل
#مسابقات_فنجان_قهوة_وكتاب
#أبجد
#كتابات_هيكل_بين_المصداقية_والموضوعية
#يحيى_حسن_عمر
#فنجان_قهوة_وكتاب













