كتاب كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية للكاتب يحيى حسن عمر
537 صفحة على تطبيق أبجد، صادر عن دار العربي للنشر والتوزيع.
= تظل المصداقية والموضوعية بوصلة أساسية لا يمكن تجاوزها عندما يكون الشخص صحفيًا أو مؤرخًا، غير أن تلك البوصلة الأساسية كثيرًا ما تتعرض للاختراق حين يمتلك المؤرخ أو ناقل الخبر نفوذًا واسعًا وقدرة مميزة على التأثير في الوعي العام فحين يصبح الكاتب قريبًا من دوائر القوة وصناعة القرار، يمكنه أن يدمج الحرفية مع المصلحة ويتجه نحو الانحياز فهل من الممكن استخدام سلطة القلم المدعومة بثقة القراء في انتقاء الوقائع أو تحوير دلالاتها؟
= محمد حسنين هيكل قلم مهم في تاريخ الصحافة المصرية والعربية؛ ليس كصحفيًا فقط بل سلطة معرفية كاملة، وقد ارتبط اسمه بأدق تفاصيل صناعة القرار على مدى سنواته ما جعل كلمته وشهادته ذات تأثير كبير في الصحافة والتاريخ السياسي.
لذلك فإن أعماله دائمًا تحت مجهر النقد، ومعظم النقد ليس بالطبع بدافع الهجوم الشخصي أو التقليل من قيمة قلمه في العموم، بل انطلاقًا من مسؤولية مراجعة السرديات المؤثرة خاصةً حين تتحول الكتابة من نقل للحدث إلى إعادة صياغته وتحويره.
= يقدم الكتاب تحليلًا شاملًا لكتابات هيكل، لا سيما تلك التي قدم فيها نفسه شاهدًا مباشرًا على الأحداث كاشفًا عن التناقضات وتحولات الرؤية التي طرأت على مقالاته عبر الزمن، ومقارنًا بين الحدث التاريخي وتمثيله النصي، فالكاتب لا يقدم هذا الطرح بوصفه حكمًا نهائيًا أو إدانة قاطعة، بل هي قراءة نقدية تاركًا الحكم والنقاش للقارئ.. وعلى الرغم من أن النبرة تقترب أحيانًا من التشكيك في نوايا هيكل، وهو ما قد يحد من ادعاء الحياد الكامل، فإن العمل يظل محاولة لفهم العلاقة المعقدة بين الصحافة والسلطة وتحوير التاريخ.
وبالمناسبة، فإن ذلك الكتاب ليس نقدًا لشخص منفرد بل لمدرسة كاملة بها أساتذة وتلاميذ، لذلك لن يعجب الكثير من محبي الأستاذ هيكل، فلا أحد يحب أن يرى أستاذه مخطئًا في أمور عدة، وليس أمرًا واحدًا لذلك سيجد الكاتب الكثير من النقد أو السخط لمحبي هيكل.
= استغرق الدكتور يحيى حسن عمر سنوات طويلة في رحلته لمعرفة كل شيء عن الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل فقد راجع كل ما كتبه، قابل بعض الناس الذين عاشروه، واطلع على أرشيفاته كي يستطيع أن يقدم صورة دقيقة عن حياته وأفكاره وحاول مقابلته لكنه لم يتوفق وحتى بعد وفاة هيكل، أكمل الكاتب العمل سنوات إضافية لينتهي برحلة بحثية شاملة للكتابة عن جوانب جديدة من مسيرته الصحفية وتأثيره الكبير على الصحافة المصرية.
وبالمناسبة لمن لا يعرف الكاتب والمؤرخ يحيى حسن عمر، فهو مهندس ومؤرخ مصري حاصل على بكالوريوس وماجستير هندسة من جامعة عين شمس، ودبلوم دراسات إسلامية وليسانس وماجستير في التاريخ ومن مؤلفاته البارزة ذلك الكتاب الهام جدًا الذي نناقشه كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية، كما أنه ايضًا عضو اتحاد الكتاب المصريين وله انجازات في الإعلام وله في مجال الكتابة الكثير من الأعمال الأدبية.
= كان لهيكل سقطات تاريخية وكتابية واضحة؛ حتى في معظم كتاباته التوثيقية لم يكن موضوعيًا، وقد أخطأ في نقل وطمس بعض الحقائق التاريخية والسياسية لصالح نظام وجهة معينة.
يكتب بلا موضوعية أحيانًا بقصد أو بدون قصد، لأنه كان على يقين أنه لا يخطئ وأنه المؤرخ الأكثر حيادية ونشاطًا، ولكن كانت هناك أخطاء واضحة للمؤرخين والصحفيين الآخرين، وعلى الرغم من أن هيكل كان يملك الوثائق والمستندات التي تدعمه في كتاباته المقالية كغيره، إلا أنه غلب عليه طبعه الإبداعي في تحوير الحقائق وترجمتها بما يهواه هو فقط، وبمعنى آخر غير المعنى الأصلي للحدث أو للوثائق.
عرض الكاتب دراسة نقدية شاملة خاصة فقط بما نقله وكتبه محمد حسنين هيكل، فقد أشار الكاتب أنه لم يورد إلا الحالات التي يرويها هيكل كشاهد مباشر أو كعنصر موجود في أغلبها، لذلك كان الفصل الأول يناقش الموضوعية والمصداقية معًا فيما يتعلق بما رواه هيكل خلال مسيرته الصحفية والتأريخية، وأشار أيضًا إلى عدم صحة كون هيكل قد نقل بعض الأحداث كشاهد على حد قول هيكل نفسه، وقد استشهد الكاتب بمقالات هيكل نفسه وتغيير الرؤى التي عرضها خلال مسيرته، وهذا ما اعتبره الكاتب تضليلًا وافتقادًا للدقة وذلك هو الصحيح في وجهة نظر أي شخص في العموم. فالذي ينقل الحدث كشاهد معاصر له بشكل خاطئ، منتظرًا موت الخصوم أو الأشخاص الذين سينسب لهم القول أو يجعلهم مصادره شخص لا يتسم بالأمانة، فدومًا كان يرمي المصادر لتعزيز كلامه ومعظمها إما مغلوط أو مجهول غير معروف، مستغلًا ثقة القراء والتلاميذ به.
أشار الكاتب أيضًا أنه لم يستشهد بكتابات خصوم هيكل، لأن الخصوم دومًا تحاول أن تظهر خصمها بأسوأ المظاهر، لذلك لم يأخذ الكاتب في مصادره أيًا من كلام خصوم هيكل المعروفين بل بحث وكون موسوعة معرفية مُثبتة ومُثقلة بالمصادر والملاحق في آخر الكتاب.
عرض الكاتب أيضًا أن هيكل لم يكن يكيل الأمور بمكيالين بل بمكيال واحد، عرض الكاتب مواقف هيكل السياسية وتحيزه لنظام عن آخر، ونقده للأنظمة بعد فنائها، بعدما كان يمجد في نزاهتها.
وفي الحقيقة لم يكن الأمر متعلقًا بهيكل فقط، فمعظم الصحفيين والإعلاميين وغيرهم اتبعوا هذا النهج ولا يزالون، فالأمر متعلق بحياتهم المهنية.
قارن الكاتب بين روايات هيكل عن الأحداث ورواية الآخرين عن نفس الحدث، وبالمناسبة كان معظمهم حاضرًا مثله، وعرض تناقضه الدائم بين كتاباته في الماضي والحاضر غير البعيد، كما أوضح أن هيكل كان دومًا ينتقي أخباره ويعرض الجانب الذي يروقه من الحدث فقط، متجاهلًا باقي الجوانب المهمة والمكملة للحدث، فيظهر الحدث غير كامل ومغلوطًا أحيانًا.
أرى أن في جوانب من كتابة هيكل ليست دائمًا محايدة أو مكتملة، وتدعو للتعامل النقدي مع أعماله، خصوصًا في ظل التأثير الكبير الذي كان يمارسه على وعي القراء، لذلك حاول الكاتب أن يكون موضوعيًا قدر الإمكان في طرحه للموضوع دون أن يتدخل بالسلب أو الإيجاب؛ هو عرض الوقائع التي حدثت وما يتبعها من تكذيب لهيكل، في بعض السطور أشاد الكاتب بحرفية هيكل في صياغة الأخبار وكتابته للأحداث ومصطلحاته وطريقة كتابته وذكائه اللامحدود وخصائص الكتابة الخاصة بهيكل، ولكن بعد أن ملأ عقلي بمغالطات هيكل التي لا تغتفر، أصبحت أحكم على هيكل بالسوء.
= كان للموضوعية نصيب كبير في مقدمة الكاتب عن الكتاب، ولكن سقط المحتوى في اللاموضوعية لأنه استعرض جانبًا واحدًا فقط من مسيرة كبيرة كمسيرة هيكل فكل المحتوى كان لإدانة وتغليط هيكل فقط، كأن الرجل لم يقم إلا بالتحريف والتكذيب طوال مسيرته المهنية.
فالمحتوى يسير على نهج واحد فقط التغليط وإدانة هيكل بكل الطرق، ولا أنكر أن كل المادة المعروضة حقيقة، ولكن أين الموضوعية في الطرح؟
فقد ظننت أن بعد فصل الموضوعية في كتابات هيكل أي الفصل الثاني، سيأتي الفصل الثاني متحدثًا عن إنجازات هيكل مثلًا أو عن الدور الهام الذي قام به، ليعطيني أملًا أن من قرأت عنه ليس شخصًا منافقًا ومخادعًا بالكامل، فمعظم الناس لا تعرف هيكل وعند قراءة العمل ستأخذ انطباعًا أن هذا الشخص أفّاق ومُدلس ومُغير للتاريخ حسب هواه، لأنه لا يوجد إنسان سيئ في المطلق.. فالموضوعية هنا أن أنقل كافة الجوانب السيئة والجيدة كي أكون محايدة في طرحي للأمر، وخاصة لشخصية مثل هيكل، لأن العنوان يوحي بأنك بداخل دراسة نقدية شاملة عن موضوعيته ومصداقيته كصحفي مؤثر بشكل عام.
ولكي أكون منصفة فالحق أن الكاتب مدح هيكل في بعض السطور أي نعم ما جاء بعد المدح كان صادمًا، لكنه مدح حتى لو بشكل طفيف وأنا كقارئة أرى أن الطرح كان انحيازيًا في المطلق وبلا حيادية كاملة، لأن كما أشار الكاتب في أولى سطوره في الكتاب عندما قدم مقدمة أكثر من رائعة عن الموضوعية والحيادية فظننت أن المحتوى سيكون حياديًا.
= لا ينتهي الكتاب فقط بالفصل الأخير وهو الخاتمة، بل يستغرق تقريبًا نصف الكتاب في ملاحق وجداول يقيس بها الكاتب مدى مصداقية أعمال هيكل إن كانت مقالية أو كتابية منشورة، ويليها ملاحق من عناوين وجرائد خاصة بما تناوله الكاتب، ثم قائمة المصادر والمراجع التي اتخذها الكاتب في رحلته البحثية لكتابة الكتاب وآخر ملحق وهو المهم، هو توثيق الكاتب لرحلته البحثية ومقابلاته، وهذا الفصل لا يقل أهمية عن العمل، فهنا ترى الرحلة البحثية التي قام بها الكاتب خلال مقابلات أو كتب أو سجلات من الأرشيف اطلع عليها، وهي بالمناسبة كثيرة وقيمة..
= اقتباس من العمل:
❞ ينفر كثير من المؤرخين الجدد وبعض من الباحثين من استخدام مصطلح (الموضوعية)؛ بدعوى أنه ليس هناك وجودٌ حقيقي للموضوعية في الكتابة التاريخية، وأن للمؤرخ - أي مؤرخ - قناعاته وموقفه الفكري، وبالتالي فليس للموضوعية وجود حقيقي، وهذا قولٌ قُوبِلَ بتَحَفُّظٍ مُضَادٍّ؛ إذ ليس المطلوب من المؤرخ أن يُغَادِرَ قناعاته ولا رُؤَاهُ الأيديولوجية، ولكن عليه ألَّا يجعلها حاكمة على نَصِّهِ قائدة له❞ الفصل الثاني صفحة رقم 58.
❞ “إن الذين عاشوا وقائع من التاريخ لا يستطيعون التَّأْرِيخ لها، لأن رؤيتهم مَشُوبَةٌ بتجربتهم الذاتية، وقُصَارَى ما يستطيعون تقديمه هو شهادة للتاريخ وليست تاريخًا، وهناك فارق ضخم بين الاثنين”، ويقول تأكيدًا على وجوب الحرص على الموضوعية وتوفر عناصرها “الموضوعية حق القارئ وحق التاريخ” ❝ صفحة رقم 60.
❞ وفي جميع الأحوال فالنتيجة واحدة؛ أن الأستاذ “هيكل” تَحَصَّلَ بالفعل على (صور) كثير من وثائق العهدين الناصري والساداتي على الأقل حتى مايو 1971، وفي الأغلب حتى النصف الثاني من 1972؛ حيث بدأت العلاقات تَفْتُرُ بين السادات وهيكل ❝ صفحة 70
❞ وهكذا استخدم هيكل التصريح في أكثر من موضع لإلصاق الاغتيالات بخصمه السياسي، وفي الكتاب ذاته والسياق نفسه استخدم صيغة المبني للمجهول؛ لتَجَنُّبِ إلصاق الاغتيالات باسم نصيره السياسي. ❝ صفحة 100
❞ شَكَّكَ هيكل –بأثر رَجْعِيٍّ بعد سقوط مبارك– في الأهمية العسكرية للضربة الجوية الأولى، ذاكرًا أن أهميتها كانت في الواقع معنويةً فقط، بينما كانت 12 إلى 18 طائرة تَكْفِي لتحقيق الأهداف المطلوبة لقِلَّتِهَا، وأن السادات أرادها (مظاهرة جوية) لرَفْعِ الرُّوحِ المعنوية للقوات، ولكي يَسْتَرِدَّ ثقتهم في انفسهم❝ صفحة 230
❞ ويعقب كشك قائلًا: “ولولا أننا لا نَشُكُّ في وطنية عبد الناصر، ولا نَثِقُ إطلاقًا في رواية هيكل لظَنَنَّا (فيهم الظنون)، ألا يعرف زعيم مصر - الذي كان عسكريًّا - ماذا يريد الإسرا ئيليون في سيناء؟ ولا يفهم لماذا يَسْتَوْلُونَ على المواقع الخالية؟، وما ذنبُ الإسر ائيليين إذا كانت المواقع قد تركت بلا مدافعين ❝ صفحة 255
❞ وأحيانًا يستخدم أسلوبَ المتحدث المجهول ليضع على لسانه ما يريد قوله، مثل (يعتقد البعض..)، أو (يرى الكثيرون أنه..)، فيُسْنِدُ إلى المجاهيل، ومن ذلك قوله “جاء دخول العراق إلى الكويت هدية من السماء لصناع القرار الأمريكي، مما دعا كثيرين إلى الظن بأنه (تدبير أمريكي) وليس خطأ حسابات عراقيًّا” ❝صفحة 331
❞ والاستغراق في الوصف وصولًا لأدق الأشياء إحدى وسائل هيكل للتأثير على القارئ من ناحية جذبه لكتاباته وكَسْرِ الأنماط التقليدية لتقديم المعلومات السياسية، وفي الوقت ذاته يكون الوصف دومًا مؤديًا رسالةً ما تصل للقارئ، إما عن حرارة استقبال، وإما عن أبهة مكان، وإما عن مكانة ضيف أو مضيف، إلى غير ذلك من الرسائل. ❝ صفحة 317

