اقتباسات إسماعيل عرفة

في الخطاب الإسلامي الرائج الآن (والمتفهّم في واقع سُدت فيه جميع آفاق العمل العام) تغيب مصطلحات (السياسة) و(الأمة) و(الجهاد) مقابل الإكثار من مصطلحات (التميّز الفردي) و(النجاح الشخصي) و(تحقيق الذات)، ويكثر الحديث حول مسائل الزواج والتعليم والبيت المسلم مقابل تقزيم مساحة الحديث عن النضال والمقاومة والحكم الإسلامي.

وإذا نظرنا إليهم الآن في 2021م فسنجد أن دفة خطابهم قد تحولت من الخطاب الشرعي إلى الخطاب التنموي الذاتي، فصاروا يتحدثون عن العلاقات الإنسانية والزواج والفرق بين الرجل والمرأة، وكيف تكون صاحب جاذبية ومتحدثًا لبقًا، وطرق إدارة المشاعر وتنظيم الوقت، وخطوات تطوير المهارات الشخصية والقدرات الذهنية والنفسية، نحو ذلك.

‫ وعوضًا عن النفس النضالي فقد أضحى عندهما نفسًا تنمويًا، حيث لا معركة سوى معركة النفس ولا نضال سوى نضال الذات، وكل ما هو خارج عن ذاتك فلا يشغلك لأنه هامشي بالنسبة لمعركة تطوير مهاراتك وتنمية تفكيرك.

الروائية المصرية سلوى بكر مع ما ذهب إليه إيكو بقولها «الثقافة السائدة هي ثقافة السوق، وهي ثقافة تجعل من الكتاب الأدبي سلعة تُطرح كأية سلعة أخرى في السوق تبحث عن الربح والخسارة، وأن ثمة آلة تعمل على ترويجها وتكريسها»

ولذا يهاجم الأستاذ الإيطالي أومبورتو إيكو هذه النزعة الفردانية المتمثلة في رغبة كل إنسان على تدوين ما شاء وتحويله إلى صاحب رأي وكلمة بين يوم وليلة، وبلسان لاذع يقول: «إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكانوا يُسكّتون فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء»

وحذر منها الإمام الشافعي قائلًا: «إذا تصدر الحدَث [أي الصغير] فاته علم كثير». وقال سفيان الثوري: «من ترأس سريعًا أضرّ بكثير من العلم»(76).

الثقافة الفردانية إذن تحب العلاقات المريحة غير المكلفة، إنها علاقات الجيب العلوي بتعبير الفيلسوف النمساوي زيجمونت باومان(75)، التي يصفها شاب مصري لنا قائلًا: «خواء العلاقات من العمق، سواء مع الأهل أو الأصدقاء. الكل يريد الانتهاء سريعًا من الحوار أو الزيارة للانشغال بمتعته الفردي

جون ألترمان فإن ظاهرة الفردانية «تتسارع في الشرق الأوسط، فالأجيال الصغيرة لم تعد مقيدة بالروابط الاجتماعية التقليدية. هؤلاء يتجهون نحو تنظيم اجتماعي ذري، فالشباب أكثر قابلية للتنقل والعائلات مفككة بطريقة أكثر مما كانت من قبل، والمزايا الاقتصادية تحصل عليها من خلال عملك واجتهادك لا من خلال انتمائك الاجتماعي

لقد صممت وسائل التواصل الاجتماعي فلاتر إلكترونية، متمثلة في نظم إحصائية معقدة تحلل «إعجابات» الأفراد، ثم تمدهم بمزيد مما أبدوا إعجابهم به. وهو ما ترتب عليه انسحاب الأفراد، دون وعي، إلى داخل فقاعات معزولة عن عالم خارجي كامل من المعلومات. وصاروا

نشرت مجلة Time الأمريكية غلافها مصورًا لفتاة تجلس على بطنها وترفع يدها لتلتقط سيلفي، ويعلوها عنوان: The Me, Me, Me Generation أو جيل أنا أنا أنا، وقد استلهمت المجلة مقال توم وولف القديم الذي يتناول نفس القضية، ولكنه حاليًا بصورة أكثر سلبية وكسلًا

وصارت الرياضة والتنمية البشرية والصحة النفسية والذهنية هي شعارات الشباب الجديدة، بدلًا من الثورة والتمرد وإسقاط النظام القديمة

بمعنى أن السلوك الفرداني الذي يتخذه الشاب العربي في العادة يجري تحت تهديد الحديد والنار، وليس نابعًا من قرار ذاتي مستقل عن العوامل الخارجية ومنبثق من إرادة الشاب الحرة بكامل اختياره الواعي، فهو قرار يحصل تحت ضغط الاستبداد ووطأة الظروف المعيشية الصعبة التي تفرضها حالة الظلم الاجتماعي والفساد والحصار الاقتصادي التي تحكم بها الأنظمة الحاكمة قضبتها على الشعوب.

فرقة المرجئة كانوا يرون أنه لا يضر الإيمان أي معصية، أي أنه مهما فعل الإنسان من ذنوب أو جرائم فهو مؤمن مكتمل الإيمان(40).

‫ وبالطبع لم يجد الملوك والمستبدين أنفع من هذا المذهب ليقربوهم إليهم، لأنه مهما فعل هؤلاء الحكام ومهما تجبروا وعاثوا في الأرض فسادًا، فإن مشايخ المرجئة سيخرجون ليعلنوا للناس أن هذا الملك مسلم كامل الإيمان مهما فعل وطغى وتجبر، وبالتالي تخمد عزيمة الناس وتفتر رغبتهم في معارضة هذا الملك.

يروى في الأثر أن الخليفة العباسي المأمون سأل النضر بن شميل عن الإرجاء فقال له: «هو دين الملوك» فقال المأمون: «صدقت»(39)

فالشاب الذي يعيش تجربة الهزيمة وتحطم أحلامه التي أنفق فيها شبابه من أجل تحقيقها، يجد نفسه مصابًا بالاغتراب ولا يشعر بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه، ولا يعترف سوى بقيمه الخاصة التي ناضل من أجلها في الفترة الذهبية من عمره. وفي هذا الإطار يرى عالم الاجتماع السوري

تولي جمال عبد الناصر وجهه شطر الاتحاد السوفيتي الذي ضغط على ناصر من أجل تعزيز نفوذ اليساريين في المجتمع والدولة، والسينما والأدب، والتعليم والثقافة.

الإنسان العربي الآن لا يعترف بأي سلطة تتجاوز سلطته الشخصية، وكل ما تفرضه عليه أي أعراف أو قيم جماعية هو محل شك واستهجان

ليس هناك شيء جديد في هذا العالم سوى التاريخ الذي لا نعلمه.

‫ الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان

الفردانية هي أنا أولى من كل شيء، وكل ما دوني فهو هامشي. وعكسها الجماعية. ولا تحمل في الغالب دلالة سلبية مباشرة أو غير مباشرة.

‫ أما النرجسية فهي أنا أفضل من كل شيء، وكل من دوني أقل مني. وعكسها التواضع. وتحمل دلالة سلبية غير مباشرة إذ أن النرجسي يمتلك اهتمامًا استثنائيًا بالذات أو الإعجاب بها، لكن بدون ضرر لازم على الآخرين، لكنها تحمل تهديد التكبر والعجرفة.

‫ والأنانية هي أنا قبل كل شيء، وكل ما دوني لا يستحق. وعكسها الإيثار. ودلالتها سلبية مباشرة إذ أن الأناني يخدم مصلحة نفسه في مقابل ضرر الآخرين

«فالليبرالية تعمل على تحليل الظواهر الجماعية وتحويل المجتمعات الجماعية القائمة على التكافل والتعاطف والتناصر إلى فردانية أنانية لا تعرف إلا المصلحة الخاصة. فالفردانية تجعل الإنسان يتمحور حول ذاته ولا يرى إلا ذاته في الوجود الاجتماعي والأخلاقي. وعندما ترتبط المنفعة بالشهوانية فهو توجه نحو تدمير البنية الاجتماعية والأخلاقية للمجتمعات الجماعية. الحضارة تصدّر الفردانية لإجهاض ما تبقى للمجتمعات من قوة، في سعي حثيث لاكتساح القيم الفردانية المادية

، فبسبب الخناق الاقتصادي المفروض على المسلمين تمحور المسلمون حول لقمة عيشهم واضطربت تصوراتهم العقدية الدينية وغابت القضايا الكبرى من أذهان المسلمين، وصار المسلم لا ينشغل إلا بنفسه ولا ينادي إلا بـ(نفسي نفسي).