اقتباسات حسن عبد الموجود

لكنه سمح لنفسه أحيانًا بأن يكون جسرًا للعتاب الرقيق،

«الفستان من شانيل.. العطر من ديور.. والمرأة صُنِعت في مصر!»

وبرغم عدم استسلامها أبدًا، إلا أنها الآن تفكر في أنه إنساني جدًّا أن تستسلم ولو لمرة وحيدة. عليها أن تجرِّب الغرق في الحزن أو الاكتئاب، بدون أن يقتلها الذنب. لقد اعتاد الناس عليها مبتسمة، فليسامحوها إذن إن عبست وتولَّت.

عاشت عمرها كله لإسعاد الناس، لكنها ليست تمثالًا أو إنسانًا آليًّا، حتى الصخر تبليه السنوات.

حاول الحفناوي أن يستشفَّ ما يدور في عقلها لكن النظَّارة السوداء وسكونها التام وقفا كالجدار في وجهه، وعوضًا عن هذا أكمل حَكْيَه بمنطق «يا صابت يا اتنين عور».

لقَّبوه في المدرسة باسم «مجنون الست»، فقد حفظ كل أغانيها وغنَّاها لهم، ولم تزعجه التسمية، وكيف ينزعج من أن يرتبط اسمه باسم حب العُمر! لكنه بعد فترة أخرى، أدرك أن أم كلثوم ليست فتاة، وإنما امرأة أكبر من أمه، واحتاج وقتًا حتى يهضم تلك الحقيقة المفزعة

نعم، لقد ربَّيتنا على الفضيلة، وكنت تغضب وتضجر حين تحسُّ بأن الناس نالوا من تعاليمك ومما زرعته فينا لا أنسى أبدًا يوم زجرتنا وأمرتنا بأن نحزم حقائبنا لنعود إلى طماي الزهايرة، متخيلًا أن القاهرة أفسدتنا، ولم تفرق معك دموع أم كلثوم ولا رجائي لا أنسى أيضًا يوم أصابك الحزن حين رأيت صور أختي لأول مرة في الإعلانات، كأنَّ تلك الصور تخدش ثوبها، وتنال من براءتها وتعكر صفاءها، لكنك تعرف أن جذورها ممتدة في باطن الأرض، تشتبك مع جذور أبيك وجدك وعائلتك والآن وأنا أحكي لك عن ابنتك التي صارت بطلة سينما، تكشفُ عاطفتها بلا خجل، تسمع الكلام المعسول وتردده، وتغني

الشباب يمنحها إكسير الفن. الشباب يجدِّد روحها وأرواح بطانتها،

. هذا الصوت العظيم يذكِّرهم بأن المعركة لم تنتهِ بعد، وأن هناك جولة قادمة، وأن بإمكانهم الصعود على جماجم الأعداء

والناس لم يملَّوا منها. صارت البلسم الشافي للجروح النازفة، والطاقة التي تشحن بطاريات الإيمان والكبرياء والأمل

لكن أم كلثوم عوضًا عن الرد سرحتْ، وخُيِّل إليها أنها تسمع صوتها يهدر على أنغام المارش العسكري: «خلي السلاح صاحي»، وتركت دموعها تنساب على خدها.

لمعتْ السماء بشرارات اللهب، ورأت بعض المناطق تتحول إلى نهار، بعد أن ضربوها بالقنابل الفسفورية. لم تهتز في جسدها شعرة واحدة، حتى حين سمعتْ صوت الخادم يقول في رجاء: «ادخلي يا ست هانم أحسن تصيبك شظية!». قالت بانفعال: «وفيها إيه يعني لما اموت؟ أنا مش أحسن من أي حد».

دوَّى صوت صفارة الإنذار. غرقت القاهرة في ظلام ثقيل. هرول الناس بملابس النوم إلى المخابئ، بينما اتَّجهت أم كلثوم، التي تعاني من أرقٍ معتاد يحرمها من النوم، إلى الشرفة. سيطر عليها الغضب والانفعال، وشخصت ببصرها إلى السماء محاولةً تتبُّع أزيز الطائرات.

أمسكتْ أم كلثوم أُذن تحية كاريوكا وشدَّتها شدَّة خفيفة، وهي تقول: «أعمل إيه فيكي، بتوقَّعي الرجالة في بعض ليه؟!». ضحكت تحية وهزَّت كتفيها قائلة: «وفيها إيه لما عبدالمطلب يغنِّي مع فرقتي!».

بعد الأغنية الأولى، هرولت إلى غرفتها فهرول وراءها. لم تجلس وانتظرته حتى ينطق، لكنه ضحك أولًا ضحكة طويلة فقالت بنفاد صبر: «عايزة أعرف كنت فين!»، قال لها بجدية: «في حفلة نور الهدى!»، وبدأ يحكي وهو يتأمل ملامحها المندهشة..

تأملت أم كلثوم المتر الأصفر الملتف على رقبتها، وأوشكت أن تضحك سائلة: «انتي نجَّار ولا خيَّاطة؟!»، لكنها عوضًا عن ذلك قالت: «اعتبريني مديحة يسري من فضلك!»، وردَّت فيورينا بحماس: «أكيد مدام!».

وبرغم عدم اكتراثها بهم لم تتخلص من القلق والقريَفة. ما إن تفكر في شراء حقيبة أو إسورة أو بروش أو حتى منديل، تتذكرهم. سألت نفسها مرارًا هل يحقدون عليها وهي مصدر رزقهم وفاتحة بيوتهم؟!

تلك هي المرة الأولى التي تسمع فيها لقبها الأبدي. سكن قلبها في لحظة، فتمنَّت أن يتناقله الناس. تحققت أمنيتها ببساطة، فقد وصفت الصحف والمجلات الفنية ما كان من أمر المرأة الحيفاوية «أم فؤاد» واللقب الذي وضعته تاجًا على رأس الآنسة أم كلثوم، ثم رويدًا رويدًا نسي العشاق والنقاد ألقابها القديمة، فلم تعد «الكروانة»، أو «الساحرة»، أو «قيثارة السماء»، وإنما كوكب الشرق.

ڤيڤيان لي: «أترك قلبي معكِ يا أم كلثوم.. وآمل أن أحضر لاسترداده قريبًا!».

«سَلوا كؤوسَ الطلا هل لامَسَتْ فاها، واسْتَخْبِروا الراحَ هل مَسَّتْ ثناياها، باتَتْ على الرَّوضِ تَسقينى بصافيةٍ، لا للسُّلافِ ولا للوَرْدِ رَيَّاها، ما ضَرَّ لو جَعَلَتْ كأسي مَراشِفَها، ولو سَقَتني بصافٍ من حُمَيَّاها، هَيْفاءُ كالبانِ يَلْتَفُّ النَسيمُ بِها، ويُلْفِتُ الطير تحت الوَشى عِطْفاها».