اقتباسات محمد عبد النبي

لا تخشى الكتابةُ الوَحدةَ، بل تجد فيها تُربتها وحديقتها؛ لذلك لم يَعُد يخشى فؤاد الوحدة، وفي أوقات كثيرة، هدهدته الكتابة مثل أم وحَمَته مثل أبٍ، رافقته مثل صاحبة وواسته مثل صديق عزيز أمَّا الكلام فلا يطيق الوحدة، يريد مَسرحًا وجمهورًا، وكلَّما وجدهما فما أسهله وما أرخص سعره. الكلام خائن وبلا ذاكرة.

بالكلمات يُصنع العالم، بالكلمات يتغير. بالكلمات يضحك فؤاد عليهم وينال الإعجاب والتقدير والجوائز، مِن غير أن يصنعَ أو يزرع، فقط بالأصوات والحروف، بالهمزات والساكن واللَّيِّن والضَّبط بالشكل ما أسهل الكلام وما أهون الكلمة، ببعض أنفاس في الصدور ورموز على السطور، يمكن لأفقر الفقراء أن يمتلك العالم كله.

لكنَّ كلَّ وَهمٍ يُولَد وفيه شوقٌ لأن يكون محبوبًا ومرغوبًا، مِثل كل إنسان، يُولَد ويعيش ويموت في لهفة على ابتسامة أبٍ ما في سماء حُلْمه.

فقدتُ أشياء لم أكن أعرف حتى أن الواحد يُمكن أن يفقدها

من السهل أن يتحوّل الضحية إلى قدّيس في عين نفْسه على الأقل

ربما تكون السعادة هي الجزرة التي يضعونها أمامنا؛ لنبقى سائرين إلى الأمام مهما جرى، وربما لا تكون حتى جزرة حقيقية، بل صورة لها، لا أكثر.

أنا يا ما بكيت، لأتفه الأسباب، والآن لا أستطيع

الدنيا ملآنة بالمساجين؛ الحقيقة إنها سجن كبير

كان الأمل طفلًا مُشوَّهًا، وُلِدَ عجوزًا وشريرًا، يجلس ليقاسمني الشراب كل ليلةٍ

كيف يتسع درجٌ صغيرٌ إلى هذا الحد لاستيعاب حياة أربعة عقودٍ تقريبًا؟

إلى أين تذهب القوة حينما تغادرنا؟ وكيف يتبدد الجمال كأن لم يكن؟

اكتشفتُ وقتها أن وحدتي لم تعد صخرةً أحملها وأسعى بها ليلَ نهار، بل صارت هي رفيقي الوحيد الحقيقي، مرآة لا تحبسني بداخلها، بل تحررني، وتطلقني؛ لأطير على راحتي طول الوقت

الدنيا تتنكر في هيئة ناسٍ لتمشي وتنسى، لا تلتفت أبدًا وراءها.

هذه هي الحرية الوحيدة الحقيقية، أن يملك الواحد فرصةَ أن ينفرد بنفسِهِ

عندي نسخٌ كثيرةٌ منه. صحيحٌ: كلها طبق الأصل، لكنها ليست الأصل، ليست أنا، كلها أقنعةٌ وخلفها لا يوجد أيُّ شيءٍ، فراغٌ مُفْزِعٌ

قلت لنفسي أن ماما لا تموت، لابد أن أومن بهذا، لابد أن أصدقه. هذا شيء لا شك فيه، لن تموت الآن أو قريبًا، أو حتى بعد عشر أو عشرين سنة. وحتى ذلك اليوم، لابد أن أستعد، أن أدرب نفسي على تخيل موتها وإلا فسوف أجن إذا حل أجلها.

أنا صاحبُ هذه المحارة ‫ أجدُ فيها لؤلؤةً كلَّ يوم، وأرمي ‫ بها ثانيةً إلى البحر ‫ أنتظرُ شيئًا، أو أحدًا، كلَّ يوم ‫ وأعرفُ أنَّ مَن يمضي، سيأتي ‫ ومَن يأتي، حتمًا، سيمضي ‫ عَطَشي أعمقُ من البئر

كلما تقدمت في الكتابة، تتسع هذه الغرفة الصغيرة، وتتراجع جدرانها مبتعدة حتى تختفي تمامًا، وتبقى صقحات الدفتر أمامي هي المكان الوحيد الحاضر.

أراوغ فآخذ الذاكرة إلى أبعد ما يمكنها الوصول إليها تأجيلًا للمواجهة، أشعر كأنني أودع حياتي بتكفينها في سطور وكلمات. لم أقترب من الجروح المفتوحة بعد، مازلت ألف وأدور على الورق، تمامًا كما أسير مضيعًا جسدي وسط زحام المدينة كل ليلة.

نتأكد الآن من أن عادة الكتابة اليومية ليست محض هوس لدى موظف حكومي يقدس الروتين، بقدر ما هي السبيل الوحيد تقريبًا لإنجاز مشروع كبير وله معنى، وللتطور المتواصل.

كأننا حين نبدأ الرحلة وفي أذهاننا ـ سلفًا ـ مقصد واضح لا يعنينا سواه، فإننا لا نبدأ رحلة ولا نقطعها بالمرة، فنقول ما نعرف ولا نرى إلا ما نريد.