اقتباسات فاطمة عبد الحميد

ليس ثمة نهايات سعيدة في حياة تقف على ساق واحدة .

خطأَ معظمِ البشَرِ، إذْ يظنُّونَ أنّ الحبَّ يكمُنُ في شخْصٍ واحدٍ يظهرُ فجأةً، وعليهم أن يتمسّكُوا بهِ، لأنّهُ لنْ يتكرّرَ طَوالَ حياتِهم

وهذه، على الأغلبِ، عادةٌ قديمةٌ لدى الكثيرِ مِنَ الأمّهاتِ، تقتضِي إلقاءَ المزيدِ مِنَ اللّومِ على الابنِ البارِّ أكثرَ مِنْ بقيّةِ إخوتِهِ، للاستزادةِ في طاعتِهِ وعطفِهِ، لا أكْثَر.

‫ البيوتُ، عكس ما يعتقدُهُ أكثرُ البشرِ، هي الأسوأ في كتمانِ الأسرار. فكلُّ شيءٍ فيها يكشفُ سِرًّا مَّا: طلاءُ الجدْرانِ، اللّوحَاتُ، التُّحفُ، الأثاثُ، الأجهِزةُ الكهربائيّةُ، الكتبُ، ألبوماتُ الصّور… وسرعانَ ما تتضاعفُ الأسرارُ المفضُوحةُ يومًا بعْدَ يَوْم.

ولكَمْ أعادتْ صورةُ ميّتٍ حيٍّ الحياةَ إلى حيٍّ ميّتٍ! 

إذا انتهتْ بكَ الحالُ واقفًا على ترابِ مقبرةٍ، فلا تهلع! فالدّفنُ فعلٌ طبيعيٌّ يرافقُ حتّى الأحياءَ مِنكم. استبطنْ نفْسَكَ مثَلًا! … أخبرني الآن، كمْ قبرًا وجدتَ في داخِلكَ، وكمْ أسرارًا دفنتَ؟ إنَّ صخبًا كثيرًا يمورُ في مقابرِكَ السّرّيّةِ

أنتم تتجاهلونَنِي، لأنّني غيرُ مرئيّ. تقولونَ في سذاجةٍ ليستْ غريبَةً عنكمْ: ما دُمنا لا نراهُ، فهو أيضًا لا يرانا، لذا تتجرّؤونَ على نِسْيانِ حقِيقةِ أنّني سأطفئُكم في أيِّ لحظةٍ، ولولا هذِهِ القدرةُ على التّجاهلِ، لما اسْتَطعتُمْ العيْشَ لحظةً واحِدَة.

فالرّجالُ يميلُونَ إلى هذا التّباهِي، حينَ يُمسكون بطفليْنِ مُتقاربيْنِ في العمرِ، بينما لا ترى المرأةُ في ذلكَ إلّا مزيدًا منَ التّعبِ وإنذارًا بالهرم.

إنَّ جميعَ مَنْ على هذا الكوكبِ، خطٌّ مُتعرِّجٌ مِنَ التّناقضاتِ. فهمْ يبجّلونَ النّورَ، ويهربونَ منهُ أحيانًا، لأنّهُ يكشِفُ سوءاتِهم. وتجذِبُهم العتمةُ، ويهابونُها في آنٍ واحدٍ ، والأدهى أنّهمْ يريدُون المزيدَ منَ الحياةِ، وهم غيرُ مؤهّلينَ للعيشِ فيها.

‏

كانَ على الأبِ وابنه البِكرِ الخوضُ في نقاشاتٍ لا تهُمُّهما، لا لشيءٍ إلّا لحمايةِ عُزلَةِ الألمِ في غُرفٍ مُظلمةٍ داخل رُوحَيْهما، في مكانٍ سحيق لا تصلُ إليهِ الدُّمُوع.

من هذا العلوّ، أرى البشر يسيرون كالعميان.

قد تحتملُ المرأة أن يخونَها جسدُ زوجها، أو أن يقول لغيرها ما يقول لها من كلامٍ معسولٍ، لكنّها لا تستطيع مطلقًا أنْ ترى امرأةً أخرى في قلبه، لذلك تُفضّل أن تبقى في عماها على أن يأتيها معترفًا.

لعلّ أكثر ما يُثيرني هو أنْ أراقبَ شخصًا يموتُ على غيرِ يديّ… كالموتِ حُبًّا، والموتِ غُربةً ووحدَةً، وكلاهما لا يمتّانِ إليَّ بصِلةٍ، فكلّ موتٍ ما عداي، يظلُّ مطالبًا بتقديم أسْبابِه.

هكذا تصبح الأجساد، وهي تسلك طريقَها إلى عمق الأرضِ… أجسادًا خاليةً مِنْ كلِّ الضّغائنِ، وبلا ذاكرةٍ.

لا شكَّ في أنَّ الصُّورَ والمواقفَ الّتي يُسْقِطُها الإنسانُ عمْدًا منْ ذاكرتهِ تخرجُ تلقائيًّا مِنْ حياتِهِ. لكنّها، إذا حضرَ منْ يوقظُها، تعود في صُورةٍ يشمئزُّ مِنْها صاحبُها، كأنّهُ لمْ يتعلّقْ بها يومًا.

وتملّكَهُ يقينٌ من أنَّ ما يشعر به هو الحبّ… هذا الّذي ينمُو بسُرعةٍ، كما تنمُو بَذْرةٌ في فيلمٍ وثائقيٍّ مُسرّعٍ، لتُصْبِحَ نبْتةً في ثوانٍ ولمْ يكنْ هذا خطأَهُ وحدَهُ، بلْ خطأَ معظمِ البشَرِ، إذْ يظنُّونَ أنّ الحبَّ يكمُنُ في شخْصٍ واحد يظهر فجأة و عليهم أن يتمسكوا به لأنه لن يتكرر طوال حياتهم.

وليْسَ هذا الجدُّ ذو الرّتبةِ العسْكريّةِ الرّفيعةِ وصاحِبُ الهيئةِ المَهيبةِ، وحدَهُ مَنْ يظنّ أنّ الحياة ستكون منقوصةً دونه، فكلُّكم تعزّون أنفسكم بذلك

هذا لا يعْني أنّني لا أندمُ مِنْ وقتٍ إلى آخر، فقدْ مرّتْ عليّ أوقاتٌ، تمنّيتُ فيها لو كُنْتُ قادِرًا على إعادَةِ مَيِّتٍ إلى أهْلِهِ، والتّراُجعِ عنِ الطّريقِ الوعْرِ الّذي بدَأْتُه. فبعضُهم يمحُو الحياةَ بعْدَهُ، ويترُكُ خلفَهُ ناسَهُ وقدِ انشغَلُوا بهِ كثيرًا، وأفرغُوا حياتَهم مِنْ كلِّ شَيْءٍ عَداه.

عندئذ، رحمة بهم، أمارس أقدم خدعة في الكون... فأنسيهم الحزن القديم، بحزن جديد.

في الحقِيقَةِ، يُقدِّمُ الموْتُ للمَرءِ خِدْمةً جَليلةً، تُحسَبُ لصالحي في هذِهِ الحالةِ، إذْ يُحرّرهُ مِنْ أكبرِ آلامِهِ، بدفْنِ أقربِ النّاسِ إلى قلبهِ، ليصْبِحَ بعدَ ذلكَ قادرًا على مواجهةِ أيِّ حزنٍ يخبّئُهُ لهُ القدرُ، لأنّ الحزنَ الأكبرَ صارَ خلفَهُ.

نعم! أنا أسوأُ مخاوفِكَ، وأنا كاتمٌ سِرَّ زيارتِي المباغتةِ لكَ، وهذا ما لنْ يحبَّهُ كلُّ مَنْ يهتمُّ بأمْرِك ولتعلَمْ فحَسْب، أنّه لا فرقَ بيْنَ أن تُولِّيَ وجهَكَ شطْرَ الحائطِ لحظةَ وصُولي أو أن تُولِّيَ له ظهْركَ، ففي كلتا الحالتينِ لنْ تستطيع مني إفلاتًا.