الهاربون والباقون > مراجعات رواية الهاربون والباقون > مراجعة Rudina K Yasin

الهاربون والباقون - إيلينا فيرّانتي
أبلغوني عند توفره

الهاربون والباقون

تأليف (تأليف) 4.4
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

الكتاب الثالث والعشرون من العام 2025

الهاربون الباقون   Those Who Leave and Those Who Stay

الجزء الثالث من رباعية صديقتي المذهلة

أيلينا فيرانتي  Elena Ferrante,

ترجمة معاوية عبد الحميد

""إيطاليا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. التوترات السياسية بين الشيوعيين والفاشتين في أوجها ،ترحل لينا الرواية من أزقة نابولي الفقيرة إلى حياة مترفة مع زوجها البروفيسور "بييترو"وعائلته المرموقة .

فيما ليلا تترك زوجها وتنضم إلى صفوف الطبقة لعاملة

كنت أريد أن أصير، مع أنّي لم أعرف ماذا أصير بالضبط.

وكنت قد صرتُ، هذا مؤكّد، ولكن دونما طموح، دونما شغف حقيقيّ، دونما غاية محدّدة. كنت أريد أن أصير شيئًا ما لمجرّد أنّي أخشى أن تصير ليلا شيئًا مهمًّا، وأنا أظل خلفها

.

كبرت ايلينا وليلي كبرتا وتعلمتا معاني الأنوثة والأمومة والخسارة، واكتشفتا أن العمر يمر بهما بين صعود وهبوط: «كانت الشمس، في ذلك النهار الشتوي الجميل، تضفي على الأشياء مظهراً صافياً. ظل الحي القديم على حاله، خلافاً لحالنا، صمدت البيوت المنخفضة والمغبرة، صمد فناء ألعابنا، صمد الشارع العام، ومنافذ النفق المظلمة، صمد العنف، لكننا هنا اما سيرة ومسيرة جامعية، وعلاقات وقراءات عن أدباء إيطاليا، والاضطرابات السياسية في تلك الفترة، ايلينا وضعت نفسها في هذا الجزء تحت المجهر من خلال قصة زواجها وحياتها الزوجية، وصداقتها مع زوجها وبداية نضالها من أجل تحقيق التوازن بين حياة عائلتها، ومحاولة الكتابة من جديد. كانت تحتاج الى أن تنمو وتمضي قدماً في حياتها، تحدثت أيضاً عن يقظتها الجنسيّة، وتذكّرت مساراتها التي حاربت فيها الفقر والكدح من أجل مغادرة نابولي والاستقرار مع زوجها في فلورنسا، والآن تجد نفسها بين الحمل والولادة والحضانة والمطبخ ومتطلّبات الزوج.

تسلط ايضاً الضوء على حياة صديقتها ليلا التي تعمل في مصنع اللحوم وتكافح حياة الفقر من أجل ولدها ثمرة علاقتها مع نينو وثمن تركها حياة الترف والبذخ، لكن نينو هجرها وتركها وأختفى، عانت الكثير و انخرطت في الحركة العمالية، تثير غضب زملائها وأرباب العمل من خلال وقوفها في وجه كل الإساءات وقربها من صاحب العمل.

تصطدم ايلينا وليلا وتبهت علاقتهما، وتقل اتصالاتهما حتى تكاد تختفي، كل منهما يغوص في حياته، يواجهن كل الصعوبات للبحث عن الاستقلال والهوية، في بيئة مازال للرجال فيها حق الكلمة الأخيرة دائماً ، وهذا ما فاجأني فلم أصدق أن إيطاليا التي لا تعادي المرأة ابداً، يوجد فيها نفس البيئة كما في أغلب دول العالم.

مدينة نابولي كبرت ايضا وتغيرت لكن العلاقة بين الصديقتين بقيت بين تابع ومتبوعة، علاقة صديقة مذهلة تثير الرعب والمهابة: «كنت أكن لها الود، في أي حال، وأسعى إلى لقائها دوماً كلما زرت نابولي، مع أني أعترف بأنها كانت تثير مخاوفي». فمع مرور الوقت، بقيت ليلا تشكل مصدر إلهام وغيرة ورهبة في نفس لينو الكاتبة المثقفة التي لا تثق بنفسها ولا بنجاحاتها وتعلم في قرارة نفسها أنها ليست أهلاً لمنافسة صديقتها في أي مجال، ويبدو واضحاً للقارئ أن لينو الراوية ترى نفسها فارغة ومملة وأنها لم تكن لتمتلك ما يستحق النشر لولا وجود صديقتها بقصصها وأحداث حياتها المضطربة. فيتطور السرد بتطور شخصيتي الفتاتين ويترسخ شعور القارئ بأن البطلتين لا تثقان بنفسيهما ولا تثقان بقدراتهما كما أنهما لا تثقان بما قد تحمله لهما الحياة من أمور.

وعلى رغم من أن لينو انتقلت إلى بيزا ومن ثم إلى ميلانو، فهي مازالت سجينة نابولي وسجينة صديقتها ولا تتحول قصتها إلى سرد حقيقي إلا عندما تستعيد صداقتها بليلا. عندها يتوهج السرد ويصبح متيناً ومتماسكاً وينتقل إلى حياة ليلا الممتلئة بالأحداث السياسية والتخبطات الاجتماعية والفكرية، وتتحكم ليلا بمعظم أحداث السرد، فحتى عندما تكون غائبة عن الأحداث يتبين للقارئ وللينو بأنها هي التي كانت المحرك لها، إما عبر دفعها للشخصيات باتجاه معين وتأثيرها عليهم، وإما بتصرفاتها هي مباشرةً.

ترافق فيرانتي حروب بطلتيها التي تجسد حروب المرأة بالمطلق، المرأة المثقّفة والمرأة العاملة على حد سواء، حيث تسلط الضوء على أسئلة تجهد كل امرأة للإجابة عنها: كيف تحافظ المرأة على أنوثتها من بعد أن تصبح أماً؟ كيف تنتشل نفسها من بؤرة الواجبات المنزلية عندما تصبح أماً؟ كيف تحمي طموحها ورغباتها وأفكارها من دون أن تقصر بحق أطفالها؟

تغادر البطلتان في هذه الرواية نابولي لكن نابولي تبقى الظل الذي يخيفهما ويسيطر على تفكيرهما ويحفز قراراتهما. فلينو لا تزال تخشى شر الخشية أن ينتهي بها المطاف مثل أمها، وليلا تحاول أن تبتعد قدر المستطاع عن الهوة التي يشكلها الحي بالنسبة إليها بنسائه الضعيفات المهمشات.

أثبتت فيرانتي نفسها روائية متميزة بأسلوبها الحكواتي ولغتها الشيقة الرشيقة بالإضافة إلى اللوحة المتماسكة التي ترسمها لنابولي. عدا عن أنها تنقل مشكلات فتاتيها وشخصياتها الأخرى، تكمن حنكة فيرانتي السردية في أنها تنقل صورة المجتمع بأسره، بمشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيكتشف القارئ الصراع ما بين طبقة العمال ونقاباتهم من ناحية وطبقة الرأسماليين الذي يُسمون بالفاشيين من ناحية ثانية، ويعلق القارئ إلى جانب الشخصيات في دوامة من الخطابات والتظاهرات والمناشير، دوامة مخيفة تحتدم أحداثها لتصل حد العراك بالأيدي والاغتيال حتى، فتنتقد فيرانتي بسلاسة مخفية مجتمعها على لسان شخصياتها وتقول بوصف يشمل مدن إيطاليا ومعظم بلداننا اليوم: «فكان الناس يموتون من الإهمال؛ من الفساد؛ من القهر. وعلى رغم هذا، وكلّما عاد موسم الانتخابات، كانوا يتحمّسون لمبايعة الساسة الذين يجعلون حياتهم لا تُطاق».

تصف فيرانتي مجتمعاً يخشى فيه الأولاد أن يكبروا ليتحولوا إلى أهلهم، مجتمعاً تكبر فيه الفتيات ليتزوجن الشاب القاسي الثري لأنه أفضل مخرج من المأزق الذي هن عالقات فيه، مجتمعاً تتعرض فيه النساء للتحرش الجنسي في المعامل والمصانع لملل الرجال، تصف فيرانتي مجتمعاً ذكورياً فاسداً قاسياً تضطر فيه المرأة للتخلي عن أنوثتها وأفكارها لتلعب دورها كأم وربة منزل ولتحمي نفسها من الرجل ومن الأحكام القاتلة التي قد تُطلق عليها.

الرواية رحلة ساحرة ينغمس فيها القارئ ويخشى أن تنتهي قبل أن يروي ظمأ مخيلته وفؤاده، تنقل فيرّانتي بمهارة سردية متميزة حياة امرأتين ومدينة، تنمو ثلاثتها داخل سجن الفساد والعنف والفقر.

 

 

 

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق