اقتباسات أحمد السملاوي

كان إنْ جاء ذكر حافظ يقول: ولدي شهيد، مات لأجل أن يكون صوتكم، والشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون.

بلا حسبان رمى حافظ نفسه في صدره، احتضنه وهو يشكره، قبل أن يستفيق سريعًا ويبتلع ريقه وعينيه تعتذر لأبيه كأنه أخطأ؛ في حياته كلها لم يحتضنه بركة، خاف إدلاله فيفسده، عامله بحزم وفتح طاقة حنانه لأصيلة، ظلمه كما ظلم أمه، هكذا تراءى له، ربت على كتف الولد، أدرك طامّته، مما حرم نفسه طيلة سنوات، حضن حافظ أثلجه، ليته قبل ذلك الأوان أدرك.

هل أخطأ حافظ أم إنّ جزءًا من الصواب جانبه؟! هل كان يجب لأن يُحقِّقَ الأحلام أن يقتلع جذوره ويبغضها؟!

يستمع إلى صوت عبد الحليم حافظ في الراديو وهو يُدخِّن بلا توقف، حليم صوته مجروح كأنّ أبنيةً شاهقةً لأحلامٍ كبيرةٍ هُدِمَتْ على ضِفاف حنجرته، حزينٌ وهو يُغنّي للحب، ومذبوحٌ وهو يُغنّي للوطن.

أنا مش عايزاك تسافر عشان قلبي مبقاش يتحمّل وجع على حبايب تانية تفوتني.. القلب طاب من البكا على الأحباب!)

تركتُ دار المحبوب وغدوتُ أمشي إلى أصيلة، إلى الماضي الذي تعيشه وصنعتْ منه حوائط وجدران تحجب الحاضر والمستقبل أن ينفذ من أي ثقبٍ لنا، أصيلة القطة التي خافتْ على صغارها فأكلتهم لتحفظهم في أحشائها من غدر الحياة.

أتوه في زحام شارع سعد ولافتات الأطباء التي تكسو عمارات الشارع كلها، أحيانًا ما أسأل نفسي؛ لماذا هناك مرضٌ ما دام في هذا العالم كل هؤلاء الأطباء؟!

أخضع تمامًا لتلك السلطة وأقول ما أملتني إياه، لأصير نسخةً مشوّهةً من الجَدّ، نسخةً تحاول جاهدة أن تبقى موجودة على الأرض، تستحضر روحه في جسدي النحيل، وشتّان بيني وبين روحه.

في الريف حياة كل الناس ملكٌ لكلِّ الناس،

كان كثيرًا ما يسأل بركة نفسه أحيانًا؛ كيف يمكن لحُفنةِ من البشر أن تمحو سيرة مكان لتكتب مكانها سيرة

تُخاوي دومًا حكاياته، تُدفئها في ليالي البرد الثقيلة، وتُرطِّب على قلبها في لهيب الصيف وقيظه، تحفظها تحت جلدها وفي شرايينها

تُحاصرني حكاياته وحكايات أبي في كلِّ شبرٍ في العزبة، أحمل على ظهري إرثَهم الثقيل، ما إن تهفو نفسي فترتكب لامّةً صغيرةً حتى يلومني القريب والغريب، الكبير في عزبتنا والصغير فيها:

‫ - أنت ابن الأفندي وحفيد بركة.

❞ (أرضك لها ماضي وتاريخ ولها مستقبل ولو كره الكارهون). ❝

❞ (لن تقوى على خلع جذورك أبدًا.. جذورك ضاربة في عمق الأرض). ❝

❞ كيف يمكن لحُفنةِ من البشر أن تمحو سيرة مكان لتكتب مكانها سيرة أخرى؟! ❝

❞ أحمل على ظهري إرثَهم الثقيل، ما إن تهفو نفسي فترتكب لامّةً صغيرةً حتى يلومني القريب والغريب، ❝

‫ بركة جاء إلى العزبة مضغةً في رحم أمه، جاؤوا من تخوم بلاد بعيدة منسية من أقصى الجنوب

اللي هيدخل يصلي هياخد تلقيمة شاي وسكر.

‫ يتوافد عليه سكان العزبة ويُهرعون إلى المسجد، يسأله الفتى وهو لا يفهم:

‫ - مش كده يابا نبقي بنخسر فلوسنا واحنا على قد حالنا؟!

‫ - اللي عند ربنا مبيروحش يا رضوان.

‫ فيسأل ثانية:

‫ - ما هو كده هيبقوا بيصلوا عشان التلقيمة مش عشان ربنا!

‫ يبتسم بركة ويمسح بيده على شعر غلامه:

‫ - النهاردة بيصلوا عشان الشاي والسكر.. بكرة يتعودوا على الصلاة ونبقى كسبنا ثواب كبير.

وارته ست أبوها صديقة أمه في الزّريبة في قطعة خَيْش، أدفأتْ لحمه الأحمر من برد الشتاء وراحتْ تغوص في طين القرية حافيةً حتى وصلتْ إلى الزاوية الصغيرة. شيخ الزاوية عبد الحق كبَّرَ في أذنيه، مسح على وجهه البريء فنالته البركة:

القرية كادتْ أن تموت جوعًا، أسبوع لا يسمعون إلا أعيرة البنادق وصوت ضحكات الإنجليز في المساء في شوارع القرية، أقاموا في البلدة كأنها ثُكْنَةٌ، عاقبوا الفلاحين على مؤازرة سعد، سرقوا المحاصيل واقتحموا مخازن الغِلال ونهبوها.