اقتباسات فيروز كراوية

ليست منيرة المهدية التي كانت أول مصرية مسلمة تتجرأ على الغناء والتمثيل على المسرح برغم أنف التقاليد. ولا هي فتحية أحمد ابنة أخت العالمة الشهيرة بمبة كشَّر.

كانت شخصية عبد الوهاب أكثر انفتاحًا، تحمل بطبيعتها حاسة اجتماعية قوية وطلاقة في الحديث وخفة ظل ولماحية أُضيف لذلك الدور المحوري الذي لعبته في صعوده علاقة عميقة امتدت لسبع سنوات بينه وبين الشاعر/ الباشا أحمد شوقي اكتسب عبد الوهاب رؤية للعلاقات البينية بين الفن والإعلام والسياسة بسبب العالم الثقافي والفني الذي قدَّمه إليه شوقي، وتمتع فيه بفرصة مجالسة نخبة المجتمع السياسية والصحفية، والسفر والاطلاع على الحركة الفنية الرومنطيقية في الآداب والفنون كلها عوامل مكَّنته من استيعاب الصراعات الدائرة بين النخب.

إلا أن المبالغة في وصف شكل ومضمون معين للأداء والقوالب الغنائية جرى الابتعاد عنه بمرور الزمن واختلاف العصر بأنه كان تركيًّا هي مبالغة مصطنعة، تناسب رؤى إيديولوجية أكثر مما تناسب الموسيقى، بل تحوي نوعًا من إنكار مساهمات المصريين الذين أنتجوا تلك الموسيقى وتوارثوها وحققوا عبرها شهرة واسعة.

والطبقة الفنية والثقافية عادة ما تجد موقعها بين التناقضات الاجتماعية وفي مجرى التحولات؛ إما بصفتها تلعب دورًا في تعريفها أو أنها تجد فرصتها للتعبير على حواف التفاوض بين أقطابها بين السلطة والمواطنين؛ أحدهما يتدخل في شروط عملها سلبًا أو إيجابًا، والثاني يُمثِّل جمهورها ومشروعية وجودها.

‫ بين خطاب أصولي أو خطاب مبشر بالمستقبل؛ أحدهما مُعبِّر عن ماضٍ تأتي منه والثاني يفتح لها آفاقًا جديدة.

‏

… إلا أن نهاية تعاون أم كلثوم مع محمد القصبجي كانت علامة على انحسار أهمية مسألة التجديد في مسيرتها في مقابل سباق النفس الطويل للحفاظ على المكانة.

و كانت أم كلثوم لا تتطلع كسابقاتها من المؤديات إلى وضعية استثنائية بين النساء إلا بوصفها رمزًا أعلى من الحب في أشكاله الدنيوية، يستحق مكانته العذراوية المُنزَّهة إما لحسن سيرته وتقديمه للغناء الديني والوطني، أو لافتراض قوة ميتافيزيقية تربطه بالتقاليد والأصل، وتصنع مسافة افتراضية مع كل ما يقلق الجمهور العام من المستحدث والمنحرف.

فأم كلثوم وحدها التي انتزعت هذه الحرية في ممارسة عملها انطلاقًا نحو نجاح مدوٍّ من دون أن تسمح بأن يثور جدل صحافي واسع حول حياتها الشخصيَّة وكانت تتحكم في المدى الذي تنتشر فيه الشائعة موظفة في ذلك علاقتها القوية بشبكة صحفية داعمة.

في وقت الاستقطاب تسللت صورة أم كلثوم المحتشمة والقديرة لتعلن عصرًا غنائيًّا جديدًا، تذود فيه الست عن شرف الأخريات وتتمثَّله، وتُطهِّر ما علق بثوب المطربات من «خلاعة».

في وقت الاستقطاب تسللت صورة أم كلثوم المحتشمة والقديرة لتعلن عصرًا غنائيًّا جديدًا، تذود فيه الست عن شرف الأخريات وتتمثَّله، وتُطهِّر ما علق بثوب المطربات من «خلاعة».

فبقيت أم كلثوم بعيدة عن إقحام نفسها في تناقضات مجتمعها في نظرته للفنانة المستثناة من بين نساء مجتمعها، بينما تعيش في خيالات رجاله نصف ملهمة ونصف عاهرة.

كانت أم كلثوم تبحث عن الإتجاه الذي يعبر عنها، فهي ليست منيرة المهدية التي كانت أول مصرية مسلمة تتجرأ على الغناء والتمثيل على المسرح برغم أنف التقاليد، ولا هي فتحية أحمد ابنة أخت العالمة الشهيرة بمبة كشَّر.

الطبيعة المحافظة لأم كلثوم كانت جزءًا من تمييزها عن معاصراتها، بالإضافة إلى قدرتها الباهرة على أداء القصائد والتواشيح الدينية بالعربية الفصحى نظرًا لنشأتها في بيت يُحفِّظها القرآن منذ الصغر لذلك استثمر مكتشفها وراعيها الشيخ أبو العلا محمد في تحفيظها القصائد، وتدريبها على الغناء المتقن بصورة احترافية لاحقًا أصبح أحمد رامي شخصية محورية في إطلاعها على كتب كبار الأدباء والشعراء، ويقال أنه نبهها للتوقف عن تقديم الطقطوقة الخفيفة التي رآها مبتذلة، ليلعب في حياتها دورًا هامًّا من حيث التثقيف اللغوي والمعرفي.

وبحلول العام 1927، خلعت أم كلثوم المعطف والعقال نحو ملابس أحدث مع بونيه يغطي شعرها، كما أمسكت بالمنديل الذي صار علامة تاريخية في مسيرتها وظهر لقب «الآنسة» ليسبق اسمها بعدما كانت تسبقه بلفظ «الست» حتى نبهها المحيطين إلى ما تتضمنه الكلمة من معانٍ سلبية بشأن عذريتها.

‏

في مسيرة أم كلثوم ورامي، يبدأ الاقتران بين القيمة الأخلاقية والقيمة الفنية وصورة المؤدية يتخلى التقليد التحرري للطقطوقة ومعاصرتها للمتغيرات الاجتماعية والسياسية عن مكانه، ويقل الحديث عن اليومي باصطلاحاته العامية ولغته الشعبية في الأغنية الجماهيرية الجديدة استمرارًا لما ألمح إليه يونس القاضي من اتجاهه للتورية في الطقطوقة النسائية، لن يكتفي رامي باستخدام التورية بدلًا من التصريح، ولكنه سيفتح عالمًا رمزيًّا باطنيًّا للتعبير، تتخفى وراءه الذاتية النسائية.

بعدها ستخطو برعاية رامي نحو تدشين مسيرتها، أو بالأحرى شعار مسيرتها كما صاغته بأثر رجعي: في سبيل إعلاء قيمة الفن الغنائي وتنقيته من صورة متردية ولفظ وأداء مُتهتِّك ميَّز أسلوب المؤديات وصورتهن ‫ لذلك كان نجاح أم كلثوم في احتلال الصدارة مسوغًا لإعادة صياغة السردية التاريخية عن زمن العوالم والطقاطيق في وقت لاحق، ضمن التأريخ للفترة التاريخية.

تصلح بدايات أم كلثوم في عالم الغناء منذ استقرارها في العاصمة كمثال على هذه الجدلية التي تتحرك فيها عدة مسارات على التوازي، فقد مرّت بمرحلة من التخبط بشأن النهج الغنائي الذي يضمن لها النجاح بين منافساتها ويحتفظ لها بشخصيتها الفريدة، وحتى عام 1926 تضمَّن غناؤها بعض الطقاطيق الخفيفة ضمن برنامجها على نهج معاصراتها، مثل طقطوقة «الخلاعة والدلاعة مذهبي»

شهدت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين خروجًا تدريجيًا ومتزايدًا للنساء من الحرملك لحضور الحفلات العامة والعروض المسرحية، واحتوت دار الأوبرا على شرفات مخصصة للنساء محاطة بنوع من الشبكات بحيث تستطيع النساء متابعة العروض دون أن يراهن

لذا يمكن القول إن مناخ النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد مهَّد للمشهد الفني الأكثر ثراءً في بدايات القرن العشرين بدأت فنون الأداء تعرف شكلًا أكثر احترافية وتنظيمًا اقتصاديًا مع نشأة الفرق المسرحية والغنائية، وتأسيس الصالات المتخصصة.

جرت عليه تطورات كبرى خصوصًا في عهد الخديوي إسماعيل (1863 - 1879) الذي استفاد من ارتفاع أسعار القطن في البورصات العالمية خلال الحرب الأهلية الأمريكية 1860، ما شجعه على الإنفاق الباذخ على المرافق العامة وبناء القصور وتأسيس المسارح الكبيرة والسيرك

قرب العام 1850، كان اختلاط المعنى بين كلمتي عالمة وغازيّة في عالم الرحالة الأجانب قد أصبح كبيرًا، إذ زادت أعداد الراقصات سعيًا نحو الدخل في مقابل انحسار نشاط العوالم (المغنيات)، وأصبحت كلمة «عالمة» موازية لراقصة وعاهرة في كثير من التصورات