عندما يكون الموت جسراً لحياةٍ ثانية- قراءة في رواية "وادي الفراشات" للروائي العراقي أزهر جرجيس
نزار عدنان جواد
"الواقع ليس سوى أحد احتمالات الخيال" - خورخي بورخيس
("إحتفظ بهم كي لا تقف عارياً في الريح"
قالها النقّاش بهدوء و هو يُغلقُ الباب و يرحل . لم يكن ذلك قولاً عابراً، أو بيتَ شِعر يبللُ يُبسَ الموقف، بل صفعة ظلَّ أزيزها يرنُّ في أذني خمسة و عشرين عاما.)
بهذا المقطع المثير للتأمل، يفتتح الروائي أزهر جرجيس روايته "وادي الفراشات"، موصلًا القارئ إلى عوالم تتجاوز حدود الواقع وتغوص في أعماق الوجود الإنساني. من خلال كلمات بسيطة، لكن ذات دلالة عميقة، يدخلنا جرجيس في متاهة من الأسئلة والحيرة، التي تبقى ترافقنا حتى نصل إلى ذروتها في فصول الرواية الأخيرة.
صدرت رواية "وادي الفراشات" عام 2024 عن دار الرافدين في بغداد ودار مسكيلياني في تونس، وقد دخلت في سباق الحصول على جائزة البوكر للرواية العربية، حيث وصلت إلى قائمتها القصيرة. تتناول الرواية تجربة شخصية بطلها، عزيز عوّاد، الشاب العراقي الذي يواجه النحس والحظ العاثر في زمن حصار التسعينات العراقي.تتجلى معاناته في محيطه العائلي والمجتمعي، حيث يجد نفسه محاصرًا بين الانكسارات والفقد، مما يدفعه للتمرد على واقعه رغم عدم امتلاكه للأدوات اللازمة لمواجهته.
عزيز، في رمزيته، يمثل الفرد العراقي المسلوب الإرادة، الذي يرزح تحت وطأة ظروف قاسية. يتنقل بين الفقر والبطالة وفقد الأحبة، حاملاً أعباء حياته على كتفيه، لا يعينه سوى سخريته من الأقدار: "لم يأخذوا رأيي حين وضعوا شروط الوسامة. يكفي أن أنفي يسير أمامي إذا سرت ليصل قلبي". يتجلى من خلال هذه العبارة الساخرة عمق الإحباط الذي يعانيه عزيز وعجزه عن تغيير مصيره.
يمر عزيز بتجارب متعددة، من العمل في مهنٍ مختلفة، كبيع الشرائط الجنسية في الخفاء أو قيادة التاكسي، إلى نقل جنائز الأطفال إلى مقبرة "وادي الفراشات". تتعقد حياته أكثر عندما يُسجن عدة مرّات بسبب كتاب ممنوع، يعثر عليه رجال الأمن في مكتبة خالهِ، و بتهمة الدعارة حين يِقبض عليه ثملاً في ملهى ليلي. هذا النمط من الحياة أبرز الاغتراب الداخلي الذي عاشه عزيز، والذي عرّفه ماركس :"أن الإنسان لا يختبر نفسه ككائن فاعل في إدراكه العالم بل إن ما يختبره هو أن (العالم) الطبيعة والآخرين وذاته نفسها تظل غريبة عنه فهي تنتصب فوقه وضدَّه كأشياء على الرغم من أنها من صنعه."
تستعرض الرواية شخصيات أخرى تعكس مختلف جوانب المجتمع العراقي، مثل خاله جبران، الذي لا يُعرَفْ شيء عن ماضيه، يعيش في الظل، صاحب مكتبة في شارع السعدون في زمنٍ شحّت فيه القراءة، لينتهي المطاف بمكتبته بعد ان رحل عن الدنيا في آخر الرواية إلى متجر ذو إعلاناتٍ ضوئية كبيرة، في دلالة رمزية لمجتمعٍ استهلاكي بحت. هذا الخال المثقف ليس من دورٍ له في الرواية سوى إبقاء عزيز عوّاد سليم العقل بمشاركته لعزيز في سخريتهم معاً من سوء الأقدار:
" - أحلم أن أكون طيّاراً مثل أبي، - على حد علمي، المرحوم كان مزيّت قطارات، -أقصد كان يحلم أن يكون طيّاراً". هناك ايضاً الصديق مهند الذي يمثل الانتهازية السائدة :"ستة أشهر و حسب هي المدة التي احتاجها صاحبي ليُمسي فقيهاً، فهلْ ما زلتم تشكّون في عظَمةِ هذه البلاد؟" ، كما يعكس أخوه الأكبر صورة للدكتاتورية و الاستبداد العائلي، مما أضاف طبقات من التعقيد على الرواية.
تتأتى الانعطافة الحقيقية في الرواية من لقاء عزيز بالشيخ الصوفي الغامض، بدري النقاش، الذي يأخذه إلى وادي الفراشات، حيث يدفن جثث الأطفال اللقطاء. هنا، يتحول معنى الفقد إلى رمز للأمل، حيث تتحول أرواحهم إلى فراشات بعد الموت. اختيار جرجيس للفراشات كرمز ،كان اختياراً ذكياً يتماشى مع ما تحمله الفراشات من دلالات في الأدب، حيث تذكرنا برمزية الحب والوجود المتخيل. ففي الأدب عموما ترمز الفراشات إلى التحوّل، و الجمال، و الهشاشة و الطبيعة الزائلة للحياة. ففي رواية " مئة عام من العزلة" لماركيز ارتبطت صورة الفراشات الصفراء في جميع أنحاء الرواية برمزيّتها إلى الحب و إلى وجود عالمٍ مُتَخيل.
تحدثت الرواية بصوت بطَلِها، عزيز عوّاد، في معظم فصولها، و إعتمدت في بدايتها على تقنية الفلاش باك لتشويق القارئ. و تميزّت كذلك بكثافتها الرمزية، حيث عكست واقعًا متشظيًا ومجتمعًا مليئًا بالصراعات. مما يُحسب لجرجيس أنه أستطاع أن يُبرزَ و بوضوح غياب الهويات العرقية، الإثنية، الدينية، و الطائفية في سطور الرواية، مما يوحي بأن المعاناة التي قصد تصويرها للقارئ كانت قدراً مشتركاً للعراقيين جميعًا.
كذلك انتقلت الرواية من الكوميديا السوداء إلى نمط الواقعية السحرية. عكس هذا الانتقال تأثر جرجيس بأدب ماركيز وأدباء أمريكا اللاتينية، حيث عالج في روايته قضايا معقدة بأسلوب فني يمزج بين الفنتازيا والواقع، يعكس اليأس الذي دفع الفرد العراقي للبحث عن خلاص في عوالم متخيلة.
مع ذلك، يمكن الإشارة إلى أن بعض مواقف سوء الحظ قد تكررت بشكل ملحوظ، مما أثقل السرد في بعض الأحيان. كما أن الانتقال من الواقع إلى المتخيل في نهاية الرواية قد افتقر إلى التعمق في التحولات النفسية التي يمر بها عزيز، مما جعله يفقد بعض العمق الذي كان يمكن أن يثري الرواية.
في الختام، تظل رواية "وادي الفراشات" عملاً أدبيًا يستحق التأمل والدراسة، حيث تبرز قدرتها على تصوير الواقع العراقي المعقد من خلال رموز عميقة ودلالات غنية. إن تجربة عزيز عوّاد تمثل رحلة إنسانية تلامس مشاعر القارئ وتدعوه للتفكر في قضايا الهوية، الفقد، والأمل. إن جرجيس، بإسلوب كتابته الساخر، استطاع أن ينسج عالمًا يتأرجح بين الألم والجمال، الحياة و الموت، الواقع و المتخيل، مما يجعل من "وادي الفراشات" رواية تستحق أن تُقرأ وتُعاد قراءتها.
*العنوان أعلاه مأخوذ عن إقتباس من الرواية نفسها: "ماذا لو كان الموتُ جسراً لحياةٍ ثانية، فهل ننعم بالعتمة كما نرغب، أم يفضحنا الضياء".