يحدث في صباحات كثيرة > مراجعات رواية يحدث في صباحات كثيرة > مراجعة Nasser Ellakany

يحدث في صباحات كثيرة - هدى عبد الحليم
تحميل الكتاب

يحدث في صباحات كثيرة

تأليف (تأليف) 4.1
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

في روايتها "يحدث في صباحات كثيرة"، تحلق هدى عبد الحليم بعيدًا، وتحدثنا عن تلك الفراشات التي لا تطير ولا تموت، وتغوص بنا داخل أعماق سحيقة مع شخصيات روايتها، حيث ترقد الأسرار التي يخفونها ليس فقط عنا وعن الآخرين ولكن أيضاً عن أنفسهم.

كانت البداية مع "شريف القاضي"، تتبعنا صفحاته منذ صباحاته الأولى، كانت الأيام تشكل وعيه ببطء، وكان طبقات نفسه وعالمه تتراكم مع كل صباح، ذراع ثريا وعرق أبيه ورائحة أمه واهتزازات أعمدة الفراش وأطياف قصر الباشا، ثم نزق الأستاذ حامد ورائحة فريال، تلك البدايات التي أطلقت وحشًا يستبيح اغتيال الأرواح وانتهاك الأجساد وقتل البراءة، مهما انتفت علاقة السببية بين البدايات والنهايات فإنها صنعت عوالم كثيرة كانت تغلف الرواية وشخصياتها، في كل صباحاتهم ومساءاتهم ولياليهم وأيامهم ورؤاهم، في كل حياتهم.

أرادت هدى عبد الحليم أن تجعلنا نعيش الحيرة التي عاشها أبطال روايتها، أطلقت علينا راويًا غاضبًا متألمًا، صنعت مصفوفة من الفصول والشخصيات، وتركتنا غارقين نحاول حلها وفك كل عقدها، بعد أن تشابكت خيوط كل الشخصيات، طفقنا في استلال كل خيط، نسحبه برفق أحياناً وبقسوة أحياناً، لكي نصل إلى طرفه، اكتشفنا أن كل خيوط الرواية كانت تنتهي عند شريف القاضي.

نبدأ بسحب الخيوط الرئيسية، فنسحب خيط "نورين الملاح"، نجد فراشاتها الساكنة واضطراب المنامات والصباحات المتكررة، ثم نسحب خيط "ليلى الملاح"، نجد الذاكرة التائهة في دروب الأيام حيث تعيش مع أختها نورين وابنتها جميلة وحفيدها مالك، ثم نسحب خيط "نهلة علام"، نجد البناء الهش مع ابنيها حازم وبهاء ومع إيناس طليقة حازم وفي الانزلاق مع الطبيب فريد.

هكذا تبدأ الصورة في الوضوح، وتبدأ الحكاية في فرض عالمها المثقل بالأوجاع والانتهاك والتحرش بالأطفال، عاش شريف القاضي لعنته ومات، لم تنتهي لعنته بموته، لكنه ترك كل الآخرين يجترون الآلام الممتدة ويعلكون المرارة المتبقية ويتلظون بالذكريات الثقيلة.

تزوج شريف من ليلى الملاح أخت نورين ... أنجب منها جميلة التي تزوجت وأنجبت مالك وفعلت ما فعلت مع أمها المريضة ... غادر شريف ليلى وجميلة في طفولتها وتزوج من نهلة علام ... أنجب منها حازم بذكرياته المربكة وجلسات العلاج وطليقته إيناس صادق والبراح والحرية اللذين كان يبحث عنهما ... وأنجب أيضًا بهاء بعرجه القديم وما كان يحدث في حديقة منزل بسنت ومع نزواته وميوله المثلية الجنسية وصديقه شادي.

تتبعنا صفحات طبيب نورين الملاح وعدنا بالزمن سنوات، وجدنا نورين الصغيرة في بيت ليلى وشريف، وفستانها الوردي الذي تملؤه الفراشات زاهية الألوان، ذلك الفستان الذي أورثها كراهية هذا اللون وكراهية الفراشات وقطع الشوكولاتة، وجدنا الحيرة والانتهاك، وجدنا الأسف والعجز والمرارة، ثم عرفنا ماجد الذي تزوجته ثم انفصلت عنه عندما لم تستطع التخلص من آلامها، عرفنا حنان وابنتها شروق في دار رعاية إبتسامة، وتتوالي الصباحات والمساءات والليالي والأيام، وتتدافع الرؤى، ويحدث كل ما يحدث، ونمضي مع نورين طوال الوقت حتى نتأكد في النهاية أن ماجد قد عاد وأن فراشاتها قد اختفت أخيرًا.

سلاسل من الانتهاك والألم، سلاسل بلا نهاية، بعد أن فككنا كل خيوط الدراما، أدركنا أن تصرفات فرد واحد يمكنها أن تحدد مصائر كل من كانوا حوله ومن سيأتون بعده، تلك السلسلة البائسة التي بدأت بشريف القاضي ولم تنتهي به، وفي النهاية تقول الرواية كل شيء:

"يحدث كثيراً في الحياة ...

أن نحسب أننا سنتعافى حين نتجاهل ونتناسى.

أن نحسب أننا سننجو حين نبعد ونتغافل.

أن نحسب كوننا ضحايا ولسنا جناة يكفي لنظل على قيد الحياة.

يحدث كثيراً في الحياة أن ندرك مؤخرًا أن الضحايا يسقطون لمرات متتالية حين يرفضون الخروج من مناطقهم الآمنة داخل دور الضحية."

برعت هدى عبد الحليم في تقديم رواية مختلفة، رواية مؤلمة ومتألمة، تضم لغة متوترة ينطق بها راوٍ يبحث عن نهاية أقل ألمًا، وحبكة مرهِقة تعكس إنهاك شخصيات الرواية، والتفاف درامي يشي بتردد السرد والبوح، وبنية ملغزة أشبه بالمتاهة تخفي وراءها كل الأسرار، لكي تطلقها في الوقت المناسب، بعد أن يتمكن منا الشك وتستبد بنا الحيرة ونتورط بالكامل في الحكاية.

كانت اللغة تستخدم فعل المضارع معظم الوقت، توحي بأن كل شيء ما زال يحدث الآن بصرف النظر عن زمنه الفعلي، الانتهاك الآن، الكتمان الآن، الألم الآن، البوح الآن.

"يحدث في صباحات كثيرة"، هو عنوان فاتن لرواية، عنوان يشي بالتكرار ويشي بالحتمية ويشي بالجبر الذي يحكم الكون وسكانه، عنوان يجعلك مضطرًا إلى أن تتابع كل ما يحدث في تلك الصباحات الكثيرة.

"يحدث في صباحات كثيرة"، هي عبارة موسيقية موقظة، لها رنين ملهم، عبارة تستدعي الزمان في صباحاته ومساءاته ولياليه وأيامه وكل أوقاته، وتستدعي المكان الذي استقبل كل ما كان يحدث في جوانبه وطياته، فجعل من صفحات الرواية ومن قارئها، مستودعًا لأسراره.

في النهاية أقول:

يحدث في صباحات كثيرة أن نقرأ قصصاً وروايات مفعمة بآلام الإنسان وأحزانه وعبث أقداره، أن نتأمل ونتألم، أن تحزننا قسوة الحياة وأن تنهكنا لعبتها، أن نخضع للأقدار مدركين أن الحياة جبر لا اختيار، وأننا مجرد عابرون في دروبها، نتحمل صفعاتها ولطماتها حتى ينتهي عبورنا.

يحدث في صباحات كثيرة أن نبحث عن ينابيع المعاني، عن معنى كل شيء أو حتى معنى أي شيء، بحث بلا جدوى، وبلا يأس، فلعله سوف "يحدث في صباح ما" أن نجد تلك المعاني.

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق