قرأت رواية "عملية تجميل" للكاتبة الأستاذة زينب عفيفي، رواية فلسفية رمزية بديعة، وجدت في نصفها الأول واقعية فانتازية، تحولت في نصفها الثاني إلى فانتازيا واقعية، رأيت كيف يتحول الواقع إلى رمز، ثم يعود هذا الرمز ليصف الواقع بعد أن تجرد من أرديته الزائفة، وشاهدت الجمال عندما يحاول أن يتجسد في الأوجه والأجساد، فإذا به ينسحب من النفوس والعقول.
الرواية تدور في مدينة نائية تطل على بحر ويخترقها نهر وتحيط بها حدائق، هي مدينة تشبه مدينتنا، وسكانها يشبهوننا، واضطراب أقوالهم وأفعالهم وارتباك أحلامهم يشبه اضطرابنا وارتباكنا.
كانت البداية مع "شريهان فاضل" من خلال صورة على صفحة النهر وعلى سطح المرآة، ثم حديث مع صديقتها صفية، ثم زيارة لعيادة طبيب يملك إكسير الشباب، ثم حادث سير، ثم نظرة مرتبكة على الحاضر والمستقبل، بعدها تزاحمت كل الأسئلة في عقلها وقلبها، وتثاقلت كل الإجابات في فمها.
المدينة أصابها جنون العودة للشباب، كل سكانها صاروا في عمر الشباب، لهم نفس الشكل والملامح، والشباب الأصليون تاهت ملامحهم الحقيقية وسط ملامح الشباب المزيفين.
تمضي الرواية في لغة وصفية بديعة وصور درامية مفعمة بالأحاسيس المرهفة، شريهان فاضل، وطارق ابن أختها، وصفية صديقة عمرها، وماهر عوض الطبيب الساحر صاحب إكسير الشباب، وإلهام ونورهان الصديقات، وفريدا ابنة صفية، وفاتن عبد الحميد، ورئيس المدينة، وغيرهم من الشخصيات الحائرة والمحيرة، وربما كنا جميعاً من ضمن شخصيات الرواية.
ترفض شريهان العبث بملامح وجهها، كما رفضت ميريل ستريب عندما قالت ❞ لن أسمح لأحد بإزالة تجاعيد جبيني، فهي نتيجة دهشتي أمام جمال الحياة، أو تلك المحيطة بفمي لأنها تُظهر كم ضحكت وكم قبّلت، ولا حتى البقع السوداء تحت عيوني، فخلفها تختبئ ذكريات أحزاني وبكائي.. أنها جزء مني وأحب جمالها. ❝
مضى جنون المدينة إلى منتهاه، الشباب الأصليون يرفضون، والشباب المزيفون يصرون، الشباب الأصليون يبحثون عن الهجرة إلى "مدينة الأمل"، وكل الناس يسعون إلى مدينتنا هذه من أجل الحصول على حقنة إكسير الشباب.
طالت حمى العودة للشباب كل شيء، حتى مسؤوليها بعد أن حقنوا وجوههم، يريدون أن يحقنوا المدينة ذاتها بحقنة إكسير الشباب، تغيرت ملامح المباني والشوارع والأماكن، حتى أوشكت المدينة أن تفقد روحها الحقيقية وتاريخها الأصلي، وأوشك سكانها أن يفقدوا المعنى والقيمة، عندها أصبح كل شيء في المدينة زائفاً.
❞ لا أحد يعمل، لا أحد ينتج، الكل يستهلك! ❝
❞ المدينة تحولت بين يوم وليلة إلى فتاة شابة ليس لها ماض ❝،
ظنوا أن الجمال هو السعادة:
❞ الجمال يا حبيبتي نصف السعادة، بل هو السعادة نفسها. ❝
ربما يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن ما هو الجمال؟، هل هو ملامح وجه واسترسال شعر والتفاف جسد وتناسق قوام، لو كان كذلك فما أتفهه، لو كان كذلك لما شغل الفلاسفة منذ مغامرات العقل الأولى وحتى يومنا هذا، في فلسفة الإستطيقا وعلم الجمال، الذي ربما آخِر مباحثه هو ذلك الشيء الذي كانت تلهث وراءه المدينة.
تقول شريهان:
❞ سأظل أرى الجمال في كل شيء متناسقًا مع الطبيعة التي خلقها الله، الوجوه بتعرجات الزمن عليها، ومراحل العمر بكل ما وجدنا أنفسنا فيه، كيف نختزل سنوات العمر في مرحلة واحدة، لأنها الأجمل! ❝
تقع الرواية في ٢٠ فصل، كانت شريهان تروي لنا الحكاية طوال ١٥ فصل، حتى ظهر لها وطاردها الرجل الطويل النحيف الممسك بحقنته الرفيعة، يأتي بعدها ٤ فصول ينتزع فيها الحكي كل من طارق وصفية وماهر ورئيس المدينة، كل واحد منهم يحاول تبرير موقفه، ثم يأتي الفصل الأخير ونجد شريهان مرة أخرى تصف لنا ما آلت إليه أحوال هذه المدينة البائسة.
انتهت الرواية بعد أن سافر طارق ليعيش في مدينة "الجمال الطبيعي"، وبعد أن أدركنا أننا جميعاً ربما نحتاج إلى "عملية تجميل"، عملية لا تُجرَى داخل غرفة الجراحة أو من خلال حقنة سحرية، ولكن تجري داخل عقولنا ونفوسنا، داخل وعينا ووجداننا الجمعي، يومها سوف نجد الجمال الحقيقي يمتد بطول حياتنا وعرضها، والسعادة تقطر فوق رؤوسنا وتنساب داخل نفوسنا.
هل سيأتي هذا اليوم،
يوم يولد الإنسان، ويعيش الإنسان.