اقتباسات من كتاب أم كلثوم من الميلاد إلى الأسطورة

أكثر ما تخشاه أن تتيبَّس موهبتها في عروقها، أن تكرر أغانيها، كأنها نغمة واحدة، مجموعة كلمات، خلطة مكررة عن الحب والسهاد والعذاب والهوى والفراق.

أنا امرأة اختارت أن تكون بلا ثمرة. أرض يباب، شجرة يابسة، نهر جاف، امرأة لا تعرف إلا المسارح والموسيقى والحشود، امرأة خُلقت للشغل، وإسعاد الغير.

أم كلثوم. إنها صوت مصر حين تفرح، وصوتها حين تحزن، وأعظم ما نمتلكه»

ڤيڤيان؛ إنها ليست مجرد سائحة، وإنما فنانة تشعر وتحس وتتذوق لن تفهم بالتأكيد كلمات الأغنية، لكنها على موعد مع سحر الشرق إنها لا تحتاج إلى مصباح الجني أو بساط علاء الدين أو مغارة علي بابا، حتى تعود إلى بلدها وتنقل

إنها ملكة دانت لها أجمل مدن الأرض. فلتغني إذن لتسحر الأسماك والحيتان والقروش والأفراس في البحر، بعد أن سحرت كائنات البر.

كتب أحد الصحفيين أن الحفلة لصالح أثرياء الحرب. ردَّ عليه التابعي بأن أم كلثوم لا تغني لا للفقراء ولا للأغنياء، لا لمسلم أو مسيحي، لا لوثني أو بوذي، لكنها تغني للدنيا كلها

صوت تغلغل فى صميم كياني

‫ صب الهوى في أحرفي وبياني

‫ وكأنه لمَّا يلامس مسمعي

‫ سحر جلي لا انسياب أغاني

للصبر حدود

وهل تُقارَن نجمة لامعة في السماء بلمبة سهراية معلَّقة في سقف غرفة أو زنزانة؟ أوقفوا المقارنات فورًا!».

«احميني منه سيادتك، هو جابني عشان أشهد معاه.. لكن أنا بحب الست أم كلثوم، وبشهد إنها متعرفهوش أصلًا!»

أشعر في تلك اللحظة بأنني في منتهى الأنانية، كأني لا أهتم بموتها أكثر من اهتمامي بنفسي واسمي، لكنكم تعلمون أنني أحببتُها مثل أختي وأمي. صارتْ فردًا من عائلتي.

لكن الأحداث المؤلمة كانت أكبر من قدرتي على ملاحقتها، فكل يوم تنتكسُ صحتها درجة.

‫ لا أعرف مطربًا أو مطربة في صبر أم كلثوم. تلك المرأة العفيَّة لديها طاقة عشرة أفراد. نسقُط في البروفة من التعب أمامها، لكنها تقول ببساطة: «تاني».

لمحتُ الطبيب يخرج من الباب المفتوح مُطرِقًا، وربما خرج وراءه مَلَكُ الموت مُطرِقًا بدوره. تجمَّد الوقت، وأُصِبتُ بالصمم. هرول الناس حولي في كلِّ اتجاه كأن القيامة قامت، لكنني لم أنتبه لصياحهم ووَلْوَلاتهم وصراخهم، ولم أسمع سوى صوت الصمت الثقيل، ثم انفجر طنينٌ مستمر في أذني وعقلي. ماتت أم كلثوم.

ها أنا مطلوبٌ مني لمرَّة جديدة أن أنسى مشاعري، كأنني صنم، أو جماد. ها أنا مطلوبٌ مني أن ألبس قناع المصوِّر، وأن أستبدل قلبي بصخرة، وأن أقف ثابتًا، منتظرًا النبأ العظيم.

وبرغم عدم استسلامها أبدًا، إلا أنها الآن تفكر في أنه إنساني جدًّا أن تستسلم ولو لمرة وحيدة. عليها أن تجرِّب الغرق في الحزن أو الاكتئاب، بدون أن يقتلها الذنب. لقد اعتاد الناس عليها مبتسمة، فليسامحوها إذن إن عبست وتولَّت.

سيطر على أم كلثوم هاجسٌ بأن حفلتها الليلة هي آخر عهدها بالأحباب وجهًا لوجه. نال التعب منها وأنهك جسدها، وقشَّر روحها وتركها عارية، لا تستحمل أي شيء، لا البرد ولا الحر ولا الصوت العالي

عظَمة على عظَمة يا ست!‏

‫ منذ فترة وأم كلثوم تبحث عن حافظ الطحان كلما ارتفعت الستارة وانفجر التصفيق. اصطياده لم يكن صعبًا، فهو على مدار سنوات يجلس في الصف الأول، لا يشترك مع الأفندية إلا في الطربوش،

تلك المرأة الحيفاوية الجميلة. لمحتها تعهد بطفلها لامرأة أخرى ثم تجتاز الأجساد المتلاطمة كأنها تسبح، حتى وصلت إلى خشبة المسرح. حاول شرطي أن يوقفها لولا أن أم كلثوم صاحت به فتركها. صعدت المرأة إليها واحتضنتها بحنان بالغ، ثم قالت وهي تُشير بإصبع إلى صدرها: «انتي كوكب الشرق!». نقل الميكرفون ما قالته إلى الناس فرددوا بحماس: «كوكب الشرق.. كوكب الشرق.. كوكب الشرق!». تلك هي المرة الأولى التي تسمع فيها لقبها الأبدي. سكن قلبها في لحظة، فتمنَّت أن يتناقله الناس. تحققت أمنيتها ببساطة، فقد وصفت الصحف والمجلات الفنية ما كان من أمر المرأة الحيفاوية «أم فؤاد»

‫ ‏عظَمة على عظَمة يا ست!