اقتباسات من كتاب العودة إلى الرحم

آه؛ يا لهذه الدنيا، لم أكن أظنُّ أنني سآمَن للبشر مرةً أخرى، بل وسأحب أحدهم يومًا ما بعد كل ما حدث معي، الآن أجلسُ على الكرسيِّ المفضل لمحبوبتي البشرية التي ماتت قبل ثلاثةِ أيام، وأستعيد شريط حياتي قبل أن تصل إلى محطتها الأخيرة.

برغمِ كلِّ هذا الغمِّ لا أزالُ ألجأُ إلى خيالاتي، لا زلتُ أحلمُ وأحلم، لكن هل بدَّدَ الحلمُ كلَّ هذه المآسي والمصائبِ في حياتي اليومية؟ الآن الآن؛ هل يُشفقُ عليَّ العالمُ ويقول: «مسكينةٌ هربتْ للتوِّ من الواقعِ الفظيعِ إلى حلمٍ صغير» ويتركُني فقط لبعضِ الوقتِ ريثما أستعيدُ شيئًا من قوةٍ تُبقيني واقفةً في خضمِّ مهازلِه؟

‫ - لكنني لا أعرفُ ماذا أضعُ في هذا الدفتر.

‫ - تضعين فيه اللحظات التي أحسستِ فيها بالسلام يغمر داخلك، وتلك التي أحسستِ فيها أنكِ فَرِحةٌ ولو كانت لحظةً قصيرة، في الأساس كلُّ اللحظاتِ قصيرة، لكنَّ العمرَ هو حاصلُ جمع هذه اللحظات. يُمكنُكِ توثيقُ نزهةٍ ممتعة أو شعورٍ جميل، يُمكنُكِ التقاطُ صورةٍ لأكلةٍ أحببتِها وسعدتِ بتناولِها، أو صورةٍ لنفسِك في مكانٍ تزورينه لأول مرة، يُمكنُك توثيق إشادةٍ نلتِها من أحدِ مُدرِّسيك. وثِّقي كلَّ أوقاتِك السعيدة لتعودي إليها عندَ الحاجة، لا تُفلتي لحظةً واحدة.

إذا كان الواقع كارثيًّا فالحلُّ هو تغييره، أما تسريبُ مَن لا يقبلونه من الباب الخلفي برصاصةٍ في الرأسِ أو القلب فلا يُشكِّل نجاةً لأحد، وأن هذا القتيل لن يكون ممنونًا لقاتلِه في الآخرة لأنه أجلاه من حياةٍ رديئة دون أن يأخذَ رأيه، وسيظل ينتظر اللحظة التي يرجو فيها ربه: «أي ربِّ؛ سلْ هذا فيمَ قتلني»، ولن يتنازل عن هذا السؤال بزعمِ أنَّ مَن قتلَه أنجاه!

«الحياةُ أصبحتْ لا تُطاقُ يا مرمر، أحيانًا أتمنى لو أنكِ لم تذهبي وحدَكِ وتتركيني خلفك، أحيانًا أكرهُ الشخصَ الذي اختارَكِ بالذات رغم أننا كنا نمشي متشابكتَي اليدين، تصوري! لقد أصبحتُ أشعرُ بالحنق تجاه قاتلٍ مأجور لا أعرفه لأنه لم يقتلني»

«لا تقلقوا يا أعزائي، إنني أتعهدُ لكم جميعًا أنني إذا لم أُحرِّركم فلن أسمحَ بأن يحدثَ لكم ما هو أسوأ، ثقوا بي ولن تندموا، وإذا أردتم نصيحتي فأنا أنصحكم بأن تستمتعوا بالساعاتِ الأخيرة لكم هنا؛ لأنكم ستطيرون غدا وسيمكن لكلٍّ منكم أن يتفقدَ عائلتَه وبيته»

كلُّهم يبحثون عن حلِّ المشكلة، لا أحدَ يبحثُ عن سببها، وهم لذلك محكومٌ عليهم بالحبسِ في دائرةٍ مغلقة لا تُفضي إلى شيء.

قلتُ: «لأنَّك طفلٌ لم تتعقَّدْ فيكَ الحياةُ ولم يغزُ الضجيجُ داخلَكَ بعد، بوسعِ الأطفالِ جميعًا أن يسمعوا البرتقالاتِ الطَّيِّباتِ مثلي وربما أشياءَ أُخرى أيضًا، لكنَّهم حينَ يكبرون ويكفُّون عن تصديقِ الأصواتِ التي تأتي من دواخلِهم، ويكفُّون عن تصديقِ أنَّ البرتقالةَ تتكلَّم، لا يعودون قادرين على سماعِها».

لا ينبغي أن يهلَعَ الذين يمتلكون أشخاصًا يتضرعون إلى الله من أجلهم، أليس كذلك؟

لكن ماذا بيدي لأفعل؟ إنني من جيلٍ لم يعشْ ويسمعْ ويرَ لينسى ما عاشَه وما سمعَه وما رآه، كُتبَ علينا أن نستوفيَ حصصَنا من المأساةِ تامةً وفي مواعيدِها ثمَّ نحملَها جراحًا مفتوحةً في الذاكرة، ويسألونَكِ بعدَ كلِّ هذا لماذا تُعقِّدينَ

ذاكرتي كالغربال والكلمات تسَّاقطُ منها كما يتساقط طحين القمح، لكنني لم أنسَ المعاني، المعاني كبيرة بما يكفي لئلا تسقط مهما اتّسعتِ الثقوبُ أو اشتدتِ الهِزَّة، أليس كذلك؟

وأنَّ الإنسان يصرخُ عندما يُولد ليعودَ إلى الرحم الأولى، ويصرخُ عندما يموتُ لئلا يدخلَ الرحمَ الثانية، وفي كلتا الحالين لا يُفيدُه الصراخُ شيئا

الموت شيءٌ كهذا إذًا؛ أن نكون قريبين من أحبابنا جدًّا، وبعيدين عنهم للغاية في الوقت عينِه.

لا ينبغي أن يهلَعَ الذين يمتلكون أشخاصًا يتضرعون إلى الله من أجلهم، أليس كذلك؟

كلُّهم يبحثون عن حلِّ المشكلة، لا أحدَ يبحثُ عن سببها، وهم لذلك محكومٌ عليهم بالحبسِ في دائرةٍ مغلقة لا تُفضي إلى شيء.

البنت عادت بعد ثلاثة أسابيع؛ لا أربعين ساعة ولا أربعين يومًا ولا أربعين أسبوعا

«لا يعرف الآباء ما يجب فعله على الدوام يا صغيرتي!»

كُتبَ علينا أن نستوفيَ حصصَنا من المأساةِ تامةً وفي مواعيدِها ثمَّ نحملَها جراحًا مفتوحةً في الذاكرة،

وهكذا الشعراء والكتاب على الدوام؛ يتحصنون بالأسماء المستعارة لتكدسِ أدمغتِهم باحتمالاتٍ لا نهائية لطريقة سير الأحداث.

❞ الموت شيءٌ كهذا إذًا؛ أن نكون قريبين من أحبابنا جدًّا، وبعيدين عنهم للغاية في الوقت عينِه. ❝