الكتاب رقم، اثنان واربعون من العام 2025
عبقرية محمد
الجزء الأول من كتاب العبقريات
عباس محمود العقاد
إنه لنافع لمن يقدرون محمداً، وليس بنافع لمحمد أن يقدروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغى الجهلاء، إلا كما نال منه بغى الكفار.. وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمداً بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجرى على مجراه فيها.. لأن مسلماً يقدر محمداً على هذا النحو يحب محمداً مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس. وحسبنا من "عبقرية محمد" أن نقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء.
العقاد لم يكتب في السيرة النبوية، وإنما هو كتب عن عظمة محمد عليه الصلاة والسلام. هو كتاب محوره الرئيسي البرهان على عظمة محمد في كل ميزان. في ميزان الدعوة، وميزان العبادة، والقيادة العسكرية والسياسية، وفي الميزان الأسري والاجتماعي كزوج وأب وصديق...إلخ. وكل هذه العظمة يجمعها عنوان واحد هو "عبقرية محمد".
ولئن كانت صورة محمد صلى الله عليه وسلم عندي سامية لم تشبها يوما شائبة ولم تعكّر صفاءها تهمةٌ أطلقها مستشرق حاقد (وليس كل المستشرقين حاقدين)، أو شاكٌّ مُتحيّر، أو رجلٌ استقبل إشارات مشوّشة جعلته يقف من هذا الإنسان العظيم والنبي الكريم موقف ريبة أو تُهمة، لئن كان ذلك كذلك، فإن مقام الأستاذ العقّاد سما في نفسي، وقد كان يحتلُّ من قلبي مكانة عالية قبلُ، وهناك فرقٌ بين مكانة يرسمها الإنسان لشخص وهو في مقتبل العمر ومكانة يرسمها بعدما بلغ أشدّه وصار يرى العالم بغير العين التي قد كان يراه بها من قبلُ.
الكتاب يتألف من مقدمة وأربعة عشر فصلًا. يبدأ العقاد كتابه يرسم صورة مفصلة لأحوال العالم الذي كان ينتظر البعثة المحمدية. عالم بيزنطة وفارس والحبشة... فقد كل أسباب الطمأنينة...تتنازعه المظالم والفتن والشهوات.. ويضيع في عبادة الأوثان
وأمة عربية تحدق الأخطار بها من كل جانب... ومدينة مكة مركز تجارتها وثروتها.. وقبيلة تنقسم بين سادة وعبيد.
فلفرط سوء الأحوال ورداءة الظروف، العالم بأجمعه بات يتطلع إلى نبي.. ذلك محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام..
يجئ بعد ذلك فصل بعنوان "عبقرية الدَّاعي".. وفيه نقرأ عن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام التي جاء يدعو الناس إليها.. جاء وفيه كل الصفات والمناقب اللازمة لنجاح الرسالة والدعوة.. الفصاحة.. فكان أعرب العرب، والوسامة والصباحة والدماثة تأسر حب الأغنياء والفقراء والاقوياء والضعفاء.. والصدق والأمانة... جاء تسبقه أنوار ايمانه بدعوته وإصراره على نجاحها...
يقول العقاد بعدما أسهب في بيان عظمة وعبقرية الدعاية: "إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته"…
أما الفصل الذي يتحدث عن عبقرية محمد العسكرية، فنجد العقاد قد قسمه -بحنكة- إلى قسمين متتاليين: الأول منهما خصصه لدحض الافتراءات على دين الإسلام بأنه دين قتال وانتشر بالسيف. وفي القسم الثاني تحدث عن كل جوانب عظمة قيادة محمد العسكرية.. القائد البصير... رسم الخطط.. الأخذ بالمشورة... معاملة الأسرى... إلخ. وحسنًا فعل العقاد هنا بأن عقد مقارنة مع نماذج من القادة العسكريين في التاريخ الحديث مثل نابليون.
ثم فصل عن عبقرية محمد السياسية خصص بكامله للحديث عن كافة التفاصيل المتعلقة بـ "صلح الحديبية"، وذلك لأن العقاد يعتبره هو أدق النماذج على عبقرية محمد السياسية.
ومنها إلى عبقرية محمد الإدارية والتي تتجلى في تدبير الشئون العامة، وأول نماذجها في حياة رسولنا عليه الصلاة والسلام، حين اختلفت القبائل على أيها يستأثر بشرف إقامة الحجر الأسود في مكانه. كما تجلت بعد ذلك في تقسيمه للغنائم بعد الغزوات.. وفي إسناد الأمر إلى الأمير (المدير) الكفء القوي... ويسوق العقاد أمثلة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام تتعلق بفنون الإدارة ويشرحها، لعل أبرزها قوله: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها".
ويمضي العقاد يكحل عيني القارئ بجوانب أخري من عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام وعبقريته، في إبلاغه للرسالة، وفي عبادته، وفي صداقته للناس بمختلف أعمارهم، وفي بيته زوجًا وأبًا وجدًا...
ثم يختم العقاد كتابه بحديث رائع عن عظمة محمد عليه الصلاة والسلام في التاريخ..
اننا لن نجد سوى بضعة كتب تخاطب إنسان هذا العصر بلغته التي يفقهها، سواء كانت لغة الخطاب، أو لغة المشاعر، أو لغة التفكير والتحليل المنطقي. ولهذا كانت كتابات غير المسلمين حول شخصية رسول الإسلام تحظى باهتمام كبير من طرف المسلمين أنفسهم مثل كتاب (توماس كارليل) المسمى "الأبطال"، إذا كان فيها قبس من الموضوعية والحكم بعظمة محمد.
كان كتاب (كارليل) المدخل الذي قاد العقاد إلى كتابة "عبقرية محمد"، فقد تساءل هو وثُلةٌ من أصدقائه بمن فيهم المازني "ما بالنا نقنع بتمجيد كارليل للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه"، وسأله بعضهم أن يؤلف كتاباً عن رسول الإسلام "على النمط الحديث". فوعدهم بأن يكون ذلك قريباً.. لكنّ الكتاب لم ير النور إلا بعد ثلاثين سنة!
وأوضح الأستاذ العقاد أن كتابه ليس "شرحاً للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعاً عنه، أو مجادلة لخصومه"، لكنه "تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يُثبتُ له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم كفى". ثم تابع "فمحمد هنا عظيم.. لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس.. عظيم لأنه على خُلُق عظيم". ولم ينس الأستاذ أن يؤكد على أن تقدير النبي صلى الله عليه وسلم "لَنافعٌ لمن يُقدّرون محمداً، وليس بنافع لمحمد أن يُقدّروه.. لأنه في عظمته الخالدة لا يُضارُّ بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء إلا كما نال منه بغي الكفّار".
كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي "الظاهرة القرآنية" وهاجسه تقديم قراءة معاصرة للسيرة النبوية تعتمد على أدوات المعرفة المعاصرة في علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة اللغة، حتى يفهم غير المسلم روح الإسلام كما يفهمها المسلم (أو يفترض أن يفهمها!). وبهذا النَّفَس كتب الكتّاب/الأدباء مثل توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد وغيرهم.. الهدف: إزالة غبار الجهل والواقع الإسلامي المرّ عن صورة مشرقة هي أشد ما تكون عليه الصورة إشراقا في عالم البشرية المرتبط بالوحي.. والتوفيق بين شريعة السماء وفلسفات الأرض.
غير أن هذه الجهود أبطأت مسارها منذ منتصف القرن العشرين، ولم نعد نجد كتّابا يحملون نفس المشعل ويتفاعلون مع البيئة الثقافية الجديدة وعصر التقنيات الرقمية، مع أن الداعي إلى التعرف عليهم أشد وأكبر وأيسر. المحزن في هذه العلاقة بيننا وبين نبيّنا أننا نزعم نُصرته فنرتكب في سبيل ذلك كل ما نهى عنه! ولهذا تبدو إعادة قراءة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ضرورة لنا كمسلمين، قبل أن يقرأها غيرنا.

