مزرعة الحيوان > مراجعات رواية مزرعة الحيوان > مراجعة Wafa Bahri

مزرعة الحيوان - جورج أورويل, محمد حسن علاوي
تحميل الكتاب

مزرعة الحيوان

تأليف (تأليف) (ترجمة) 4.4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
3

قرأت رواية مزرعة الحيوان لأول مرة سنة 2020، وكنت حينها في بداية العشرينات، مشبعة بحماسة فكرية تتعطّش للمعنى، مثقلة بأسئلة كبرى لم أكن أملك من أدواتها إلا النزر القليل. كتبت حينها مراجعة، كنت مأخوذة بفكرة الديستوبيا وقدرتها الغريزية على استثارة الوعي، مؤمنة بأن تصوير الظلم والخراب يُحرّك في القارئ رغبة خفية في التحرّر والنظام والعدل، وبأن رواية أورويل كانت مجازًا عبقريًا في نقد الأنظمة الشمولية، واستنهاضًا لعقل القارئ إزاء المكر السياسي، وخيانة المثقفين، وتواطئ الإعلام والدين مع أدوات القمع.

غير أن مراجعة ذلك الزمن، رغم صدقها، كانت مقيّدة بأفق قرائي لم يتجاوز رمزية الشخصيات التاريخية المباشرة: جونز/القيصر، نابليون/ستالين، سنوبول/تروتسكي، سكويلر/الإعلام، موسى/الدين… قراءة تظل أسيرة التمثيل، وتغفل عن السؤال الوجودي الأكبر الذي يطرحه أورويل خلسة: كيف يتحوّل الضحية إلى جلّاد؟ كيف يتحوّل الحلم الطوباوي إلى كابوس شمولي؟ ولماذا يتواطأ الجميع من حيث يدرون أو لا يدرون على قتل الحريّة باسمها؟

قرأت الرواية مجددًا هذه الأيام، تحت وابل أخبار غزة. تحت مشاهد المقابر الجماعية، والأطفال المنتشلين من تحت الأنقاض، وأصوات الجثث التي لم تُدفن بعد. ورأيت "مزرعة الحيوان" تنبض في وجهي. ليست القصة عن روسيا الستالينية، بل عن حاضر عربي يلتصق بالقهر ويُصفّق له. عن قادة عرب يُشبهون نابليون في كل شيء: في وجوههم التي لا تخجل، في شعاراتهم التي تُعدَّل كل مساء، في خطابهم الذي يحتكر الحقيقة باسم الأمن القومي أو باسم "المصلحة العليا".

كل الخنازير اليوم تطلّ علينا من شاشاتنا: تقتل، وتبرّر، وتعدّل الوصايا السبع كي لا يبدو القتل قتلاً، بل "ردًّا على الإرهاب". تُنكر وجود المذابح، وتُحاضر في الإنسانية، وتستدعي "الأمم المتحدة" كما يستدعي سكويلر أرقامًا ومعطيات تُقنع الخراف أن الماء دم، والهواء غاز، والموت حياة.

أما القطيع، فموجود على حاله: يهتف، ويُردّد، وينام. الأغنام لا تُسائل التاريخ، بل تحفظه كما يُملى عليها. والمثقفون وأقصد هنا أولئك "المرتجفين" بلغة أورويل يراقبون من بعيد، يسخرون، يتحذلقون، ولا يفعلون شيئًا. صورة بنجامين في الرواية، الحمار العارف الصامت، تتكرّر بتطابق موجع: ذلك المثقف الذي يرى كل شيء، ويفهم كل شيء، لكنه يرفض التدخل، يلوذ بالتأمل، بالتحفّظ، باللاجدوى… حتى يذبح صديقه، فيبكي متأخرًا.

لقد لمستني إعادة القراءة أكثر من القراءة الأولى، لا لأنني فهمت الرموز بشكل أفضل، بل لأنني شعرت بوزنها الفادح. لأنني لم أعد أقرأ من الخارج، بل من الداخل. لأنني وجدت في نفسي بعضًا من بكسر، الحصان النبيل الذي لا يفهم ألاعيب السياسة، ويواصل العمل بإخلاص حتى يُقتاد إلى المجزرة تحت شعار: "سأعمل أكثر". لأنني وجدت في محيطي كثيرًا من سكويلر، يكتبون خطاباتهم كل يوم ليُقنعونا أن ما نراه ليس الحقيقة، أن دماء الأطفال في غزة ليست إلا "خطأ تقني"، أو "دفاعًا عن النفس"، أو "سوء تقدير".

تعلّمني الرواية اليوم ما لم تعلّمني إياه من قبل: أن المأساة لا تكمن فقط في استبداد السلطة، بل في استعداد القطيع لتصديقها، واستعداد النخبة للصمت، واستعداد الضحية لأن تُقتل باسم التحرير. هذا ما يجعل "مزرعة الحيوان" رواية أخلاقية بامتياز، رواية لا تقول لنا "افهم التاريخ"، بل "افحص ضميرك". لا تطلب منا أن نفسّر فقط، بل أن نحاسب أنفسنا: على صمتنا، على غبائنا، على طيبتنا المفرطة، على قابلية الاستعباد فينا.

هل نحن حيوانات "المزرعة"؟ نعم.. للأسف.

نثور، نحلم، نُخدع، نصمت، نموت. ثم تأتي أجيال أخرى، تُردّد النشيد ذاته، تحت الوصايا المعدّلة ذاتها، بانتظار جلّاد جديد بلغة جديدة. الثورة في هذا الوضع ليست لحظة، بل دائرة. لا مخرج منها إلا بكسْرها وعيًا لا شعارًا، نقدًا لا تصفيقًا، مقاومة لا تبريرًا.

ولأجل ذلك كتبت هذه المراجعة الجديدة. لا لأنها أفضل، بل لأنها أكثر صدقًا، أكثر وجعًا، أكثر انسلاخًا من وهم الحياد. ولعل هذا ما كان يسعى إليه أورويل: أن تخرج من الرواية لا بفهمٍ جديد للعالم فقط، بل بشكٍّ أعمق في نفسك، في موقعك من الظلم، في صوتك حين يُطلب منك أن تصرخ… أو أن تصمت.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق