تعطلت السيارة ذات مرة في الطريق السريع. كان عطلا فريدا من نوعه. المصباح الداخلي يضيء وينطفئ بلا توقف وكأنها سيارة اسعاف. ولكن الضوء في داخل السيارة بدلا من أعلاها. كان ذلك يشوش عقلي ويشتتني ويثير حالة من الضحك في الطريق. توقفت بالسيارة على جانب الطريق واتصلت بأحد الأصدقاء فوجهني لإزالة الفيوز الخاص بهذا المصباح من علبة الفيوزات لحين اصلاح العطل. وقد كان.
لماذا تذكرت هذه القصة الآن؟
عندما قرأت هذا الكتاب أيقنت أن الإنسان له أيضا علبة فيوزات تماما كالسيارة. ولكن ليس من السهل تغيير فيوز ليتوقف الصرع أو تنتعش الذاكرة أو تقل الكوابيس.
الكتاب الشيق الذي ينقسم إلى أربعة أقسام يتحدث عن أربعة أشياء أساسية نتجت عن تأثر الجهاز العصبي للإنسان نتيجة حادث ما سواء كان هذا بصورة عرضية أو منذ الولادة. وأولها هو الفقد: فقد الذاكرة أو فقد الإحساس بأحد أعضاء الجسم أو حواسه أو فقد الإحساس بالكليات أو الجزئيات. والثاني هو الفرط: فرط الحركة. فرط التفكير. فرط الإدراك. فرط الإحساس بشيء ما. الثالث هو ما سماه الحالات النقلية وهي حالات غريبة تعود فيها الذاكرة إلى الماضي وربما تعلق به تماما أو بجزء منه مع تذكر كل شيء بتفاصيله وان كان شيئا حاضرا على خلفية الأحداث مهما بدا هامشيا أو بلا قيمة. والأخير هو حالات البله والتوحد.
ما يجمع الحالات السابقة على اختلافها هو تعطل أحد الفيوزات أو أكثر داخل الجهاز العصبي. فقد يجد شخصا ما فجأة أن لديه حاسة شم تتفوق على الكلاب أو سوبر رؤية أو سمع يتخطى الهمس والجدران وقد يجد أحدهم أن لديه القدرة على تذكر أحداث في طفولته المبكرة لم يكن يعييها أو يدركها من قبل. أو أن تحلم بشيء ويتحقق في الواقع.
كل هذا جعلني أفكر مرة أخرى. هل يمتلك كل انسان تلك القدرات جميعها ولكنها معطلة بداخله لأسباب تطورية ترجع لعدم قدرة الإنسان على أن يمتلك كل تلك الصفات دفعة واحدة أم أن هذه القدرات هي قدرات خاصة جدا يمتلكها عدد محدود من البشر؟
ولكن لماذا نجد شخصا عاديا تحدث له حادثة ما أو يتعاطى دواء معين فتتعطل إحدى الحواس أو ترتقي. ألا يعد هذا دليلا على أن علبة الفيوزات هي نفسها وكل ما يحدث هو تفعيل أو تعطيل للفيوز الخاص بهذه الخاصية أو تلك؟
الأمر الأهم الذي خرجت به من هذا الكتاب هو ألا أنظر نظرة استعلاء إلى أي شخص غريب أو مختلف فالحكايات التي أوردها الكاتب تفسر الكثير من السلوكيات التي قد لا نفهمها في البشر والتي ترجع لاختلاف تطور الجهازه العصبي لهذا الشخص وطريقة تعامله مع الأحداث والأشياء على مدار تاريخه. فالشخص المتوجس والشخص المتمهل والشخص الغير مبالي والموهوب موسيقيا أو فنيا أو رياضيا والعبقري والغبي والمتوحد والمتشنج والمكتئب وغيرها من الصفات قد لا يكون لنا فيها يد وكل ما نستطيع هو تهذيب هذه الصفات ومحاولة إبراز الجيد منها وكنس الخبيث ولو بإخفائه تحت السجادة.
هذا الإنسان العجيب الذي يمتد تاريخه إلى الكهوف والغابات ما زال يحتفظ بخوفه وحذره وأنانيته وما زال يرهف سمعه ويرنو ببصره إلى مواطن الخطر. وما زالت هواجسه تسيطر عليه وما زال يحمل بداخله تاريخ انتصاراته وهزائمه وما زالت أفعاله تدهشنا وتجعلنا نعي أننا لا نعرف إلا أقل القليل مما يدور داخل أدمغتنا.