تغريبة القافر > مراجعات رواية تغريبة القافر > مراجعة Abeer Khaled Yahia

تغريبة القافر - زهران القاسمي
تحميل الكتاب

تغريبة القافر

تأليف (تأليف) 4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

المستوى الديناميكي :

إن الصورة السردية هي منتج فني, تتدخل في إنتاجه عناصر تكوينية فنية ولفظية, تتفاعل فيما بينها لتنتج ظواهر أو دلالات تبحث عن معانيها في إطار العمل السردي, رواية كان أم قصة أو حكاية, فإذا كانت تلك العناصر التكوينية عناصر ثابتة في الرواية, فإن حضورها اللفظي سينتج ملامح الصورة السردية مؤطّرة بالثيمة الخاصة والثابتة لهذه العناصر, انتظام أجزاء العمل السردي حول بؤرة العمل الثابتة وثيمته الرئيسة التي تتشكّل من هذا العنصر التكويني الثابت ( الماء), يجعل منه بنية متماسكة تنتظم فيها العلاقات والوحدات التكوينية السردية الأخرى ما يحيله إلى دلالة كبيرة, الصورة السردية فيها دلالة كائنة تأخذ مكانها في بناء فني يليق بها.

بدءًا من العنوان, ( تغريبة القافر), وهو بنية لفظية لغوية, تغريبة: مصدر خبر لمبتدأ محذوف مضاف بصيغة المبالغة والتمادي في السفر, القافر مضاف إليه, يعود بأصله اللغوي إلى التتبع واقتفاء الأثر, وهذا مكوّن نصّي مكثّف عن الحياة والأحداث التي عاشها بطل العمل, سالم ولد عبد الله, في بحثه عن سر الماء في عمق الصخور, أو الأفجاج القديمة المردومة, برع الكاتب في تشكيل هذا العنوان من صورة لغوية, مؤطرة فنيًّا وجماليًّا وتخييليًّا, تختزل العلاقة الإنسانية مع الوجود الكوني في حيّز التغريب, أي تخترل العلاقة بين الرحابة والمحدودية, حتى لو كان الإنسان متخطّيًا حدود المألوف باتجاه غير المألوف, فهو مقيّد بتغريبته النفسية التي لا تقوده إلا باتجاه مصيره المحتوم. وهذا المكوّن التعريفي المكثّف, سنجده حقيقة موجودة في كل فقرة في العمل, في كل مشهد حدثي, وفي كل حوار, وفي كل المواضيع والمضامين, وعند كل الشخصيات التي لعبت أدوارها على مسرح الفضاء المكاني, بعدما أحالها الكاتب من مستند سيميائي إنشائي إلى بلاغة سردية إيحائية تنفتح على لا محدودية التأويل.

الزمكانية :

قرية ( المسفاة) في ريف سلطنة عمان, في حيز زماني لم يذكره الراوي العليم ذكرًا مباشرًا, وإنما ألقى دلالات وإشارات دالة إلى أنه في فترة, قديمة نوعًا ما, سابقة للثورة الصناعية, حيث كانت الدواب وسيلة التنقل بين القرى والأماكن.

فصل الاستهلال :

يعتبر الحدث أول عنصر من عناصر البناء الفني, وبه وعليه قامت الصورة السردية في رواية ( تغريبة القافر), حدث واقعي, غرق مريم بنت حمد ود غانم, وهي حامل بسالم بن عبد الله بن جميّل, وعلى هذا الحدث تجمّعت شخصيات الرواية, معتمدة عليه في تدعيم الأفعال المتبادلة فيما بينها, وهو حدث قوي متمكن من التحكم في سير أفعالها, وبالتالي هو قادر على دفع عجلة السرد وإنتاج الأحداث التالية, التخييلية الغرائبية والواقعية, على حد سواء, مثلًا, الاستهلال في الرواية جاء في الصورة التالية:

" غريقة .. غريقة..".

ارتفع صوت الطارش في بلدة المسفاة وهو يطرق الأبواب ويصيح بالناس:

" غريقة.. غريقة.. حد غرقان في طوي لخطم..".

سمعت النساء صوت الطارش, فتفقدن أطفالهن في أرجاء البيوت والحيشان, وبدأت امرأة في وسط الحارة بالصياح والعويل لأنها لم تجد ابنها ذا العشر سنوات بالجوار, وشبّ نزاع بين امرأتين في سكة بين بيتين, لأن طفل إحداهما خرج منذ الصباح الباكر مع طفل الأخرى ولم يعودا....

كما هو واضح, هناك عدد من الأفعال القولية والحركية تضافرت مع بعضها لتقديم صورة حدثية سردية مترابطة ومتناسقة بما يكفي لتكون صورة دالة متكاملة, فهناك غريقة, يقوم الطارش بإخبار أهل المسفاة عنها, متبعًا طريقة الصياح وطرق الأبواب, وفي هذه الصورة يقدّم الكاتب : حدث + مكان + عرف سلوكي أو موروث اجتماعي يتمثّل في طريقة الإعلام التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

متجنّبًا المباشرة, وبطريقة إيحائية أحالنا السارد العليم إلى زمن قديم سابق لعصر الحداثة بكثير.

وبعده يتصاعد الحراك السردي عبر الخط السردي السببي التصاعدي: بداية – عرض – نهاية, مع تداعيات ذاك الحدث, واجتماع أهل القرية برجالها ونسائها عند حافة البئر, وإخراج الغريقة من البئر, وملاحظة حركة في بطنها, ما دلّ على أن الجنين ما زال حيًّا, وخلافهم على مشروعية إخراجه أو دفنه " بو بطنها أولى به الدفن", ثم حدث الولادة الغرائبي, الذي تحسم أمره كاذية بنت غانم, عمّة مريم وأمها التي ربّتها يتيمة, التي قامت ببقر بطنها بسكين أخذته من حزام أحدهم, وأخرجت منه الجنين باكيًا, سالم بطل الرواية, لتعلن بالتكرار المؤكّد أول حقيقة منبثقة من فعل عجائبي :

وعندما انتبه الناس إلى بكاء الرضيع التفتوا إلى مصدر الصوت مندهشين, فابتسمت في وجوههم, ابتسمت وسط الفجيعة ورددت وقد ملأت الدموع عينيها:

" محلاه... صلاة محمد السّلام... يُخرج الحيّ من الميّت, يُخرج الحيّ من الميّت, يُخرج الحيّ من الميّت"

إلى هنا يكون الحدث هو العنصر الأول الذي نهض بالصورة السردية, وما بعد ذلك ستتولى الشخصيات هذه المهمة بما يضمن الحفاظ على ترابط واتساق الصورة السردية, وقد يتدخل العنصر الثالث ( الراوي العليم) في القيام بهذه المهمة, عندما تستوفي الشخصيات دورها في القيام بالأحداث, فيقصّ علينا الراوي العليم حكايات قديمة تخصّ بعض شخصيات العمل, فالعمل قائم فنيًّا على مجموعة من القصص المنتهية التي تخصّ أبطالها, والتي يتتبّع فيها السارد مسيرة حياة بطلها منذ نشأته وحتى انتهاء حياته أو اختفائه عن مسرح الأحداث الروائية, وهكذا, وعلى سبيل المثال, من بعد حدث الاستهلال يقصّ الراوي بتقنية الفلاش باك حكاية الغريقة( مريم بنت حمد ود غانم ), التي تزوّجت من عبد الله بن جميل, عامل بالأجرة, يعتني بالمزروعات وسقي النخيل في الضواحي, بعد أن تقاسم أهل القرية أملاك أبيه ونهبوا إرثه, يتأخر حمل مريم سنوات, وهي الخياطة الماهرة التي يقصدها نساء علية القوم لتفصيل وتطريز أثوابهن, فجأة تداهمها نوبات صداع, لا تخف شدّتها إلا عندما تغطس رأسها في دلو ماء, ثم يهاجمها حلم ترى فيه مناديًا يناديها من قعر البئر, فتلبي نداءه, هذه التلبية تنتقل من نطاق الحلم إلى حيّز الواقع, فتتداعى حقيقة إلى قعر البئر لتنتهي غريقة فيه, ويبقى الماء هو البؤرة الثابتة التي يقوم عليها البناء الفني للعمل, باعتبار العلاقة التي تربط الماء بالحياة, تلك العلاقة الغامضة المتأتية من التناقض والإلتباس في ماهية الماء, من كونه روح الحياة للإنسان والنبات والحيوان, لكنه أيضًا جندي من جنود الموت, قبض حياة مريم وعبد الله, والدَي سالم, وسجن سالم في معبر بين الحياة والموت.

روى السارد أيضًا حكاية آسيا مرضعة سالم, وحكاية زوجها ابراهيم بن مهدي ورحلته في بحثه عن حلمه, وحكاية الوعري, وحكاية عبد الله بن جميّل, وحكاية الشايب حميد, والحكاية التي روتها المرأة العجوز عن مسيعيد ولد خلفون وخصامه مع أخيه على خاتم ورثاه عن أبيه.....

ولا يخلو السرد من شيء من الواقعية السحرية, حيث يتداخل الواقعي بالمتخيّل من غير أن يثير ذلك استغراب الشخصيات, سيما عند الحديث عن مراسم الدفن وما رافقه من أمطار غزيرة وأعاصير شديدة, جعلت القبر يمتلئ بالماء إلى منتصفه :

"القبر جام والميتة تغرق, إيش الحل ؟"ليرد آخر " الميتة غرقانة من قبل".

كذلك نجد الواقعية السحرية عند الحديث عن الشايب حميد بو عيون الذي:

بلغ من العمر الثمانين, وبقي يرى في البعد ما لا يراه الآخرون, وهو قادر على معرفة القادم من بعيد, وعلى تبيّن حيوانات أهل القرية التي تسرح بعيدًا في الجبال والسيوح المتاخمة, فيعرفها ويعرف أصحابها.

وفي قصة سلام ود عامور الوعري, الذي مرض مرضًا شديدًا في عمر السابعة, واحتارت أمه في علاجه, حتى لجأت إلى تطبيبه على يد ساحر يستعين بالجان, صحا ولدها فجأة من رقدته الطويلة, وصار يأكل كل طعام تقدمه له مهما كثر دون أن يشبع, وينظر إليها بعينين محمرتين مركزتين على وجهها, بملامح جامدة تمامًا, وينقطع عن الكلام لسنوات.

كما تتنامى الغرائبية من بعد حدث سقوط المطر من شق في السقف في أذن الوليد سالم, وما أعقبه من تقديم لشخصه كطفل يمتلك قدرة خارقة على سماع صوت الماء الجاري تحت الأرض. والربط الجمعي الذي قام به أهل القرية كتفسير ساخر من تلك الملكة, وأن ما يسمعه سالم ليس إلا أصوات الكائنات الشيطانية التي تسكن العالم السفلي. إلى أن تتعرض القرية لقحط شديد, مات فيه الزرع, وابتلعت فيه الأرض ماءها, وحبست السماء غيثها, وأخفق أهل القرية في تذكّر أماكن الأفلاج وقنواتها التي ردمها الزمن بأنوائه.

مستفيدًا من قدرته الخارقة على سماع صوت الماء الغائر في بطون الوديان وعمق الصخور, استطاع سالم تحديد مكان الماء, وبدأ الحفر بمفرده في البداية, ثم بمساعدة أبيه, تدفّق الماء الذي أعاد الحياة للقرية بعد أن أوشكت على الهلاك, كما استعاد ثقة أهل القرية بقدرته الخارقة التي صارت مجال عمله الذي بات يترافق فيه مع والده والوعري, من خلال هذا العمل يلتقي في إحدى القرى المجاورة مع فتاة كان قلبه قد خفق لها في مرحلة الطفولة حين كانت في مع أمها في زيارة لعمته كاذية, أطلع والده على رغبته بالزواج منها, وفعلًا طلبها له وأقيم حفل زفافهما, ولم تكتمل فرحتهما في صباحية العرس حيث أفاقا على مأساة كارثية مات فيها الأب عبد الله بن جميل, إذ سقط عليه سقف القناة فسرق حياته, غادر سالم القرية مع عروسه عائدين إلى قريته يأكله الحزن الشديد على والده, وعاهد نفسه على ألا يعود إلى هذا العمل الذي جلب له الإهانة في البداية بسخرية الناس منه, ثم التعاسة بفقدان والده, وبعده عمته كاذية التي ماتت حزنًا على عبد الله بن جميل, ولكنه بعد سنوات وافق على العمل في قرية كاد الجفاف يفتك بآخر أهلها, استجاب للندّاهة التي كانت تعصف كالهاجس في رأسه حتى أصابته بالصداع الشديد, كان العرض مغريًا جدًا, سيحصل على نصف أملاك القرية, وكافيًا ليتخلى عن عهده, لم يطق العاملون معه صبرًا فغادروه, وعاود العمل بمفرده كمحاولة أخيرة, نجح, وانفجر الماء, لكنه سحبه إلى الأعماق, لم تفلح محاولاته الحثيثة بالنجاة, فعاش في محبسه المائي مقتاتًا على ما يتوفر في السرادي من هوام وعناكب وأسماك, ولا يبقى إلى نهاية الرواية سوى زوجة القافر التي لم تفقد الأمل بعودته, فعاشت تبدّد وقت الانتظار برعي أغنامها, وغزل صوفها. منح الحظ سالم فرصة ثانية للنجاة حينما عثر على مسماره ومطرقته, فحاول توسيع فتحة الخاتم كي تتسع لخروج جسمه:

صار الزمن دائريًا مفتوحًا على الأبدية, ولم يعد مستعجلًا على تثبيت المسمار, ولا يهمه الوقت الذي سيصرفه أمام البوابة الصخرية التي تفصله عن الهواء والضوء والحياة. ...

لكنه فقد المسمار ثانية فاستعر غضبه واكتفى بالمطرقة, ثارت فيها فصول مأساته وذكرياته وعذاباته:

تداعت الصخرة أمامه, وانفتح الخاتم على النفق الطويل, فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء.

يضع القافر نهاية مفتوحة للرواية, لا يقرّ فيها الكاتب موته كنهاية حتمية وموضوعية, لوعيه وإدراكه ككاتب فني المحترف من أن الموت ليس نهاية في مخطط التشابك السردي الذرائعي من المنظور الفلسفي , لأن الصراع الإنساني مع الحياة مستمر, ولم ينته بعد.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق