الرواية التي أعادت لي شعور العيش خارج إطار الزمان والمكان ليومين حتى أتممتها، سعيدة بهذا الشعور لكني حزينة علي معيوف; يقول الله تعالى{ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}. هذا مافعله خلف.
مخيال معيوف > مراجعات رواية مخيال معيوف
مراجعات رواية مخيال معيوف
ماذا كان رأي القرّاء برواية مخيال معيوف؟ اقرأ مراجعات الرواية أو أضف مراجعتك الخاصة.
مخيال معيوف
مراجعات
كن أول من يراجع الكتاب
-
Mohamed Khaled Sharif
"مخيال" (بكسر الميم): أداة بدوية تُستخدم في الصحراء، وتحديدًا في تربية الإبل.
أما "معيوف"، فقد وُلد بأصبع زائد في كل قدم، فتشاءم منه أهله، وزاد الطين بلة أن صحته كانت متدهورة. حاولوا علاجه في الصحراء دون جدوى، فنقلوه إلى الإرسالية الأمريكية، وهناك شاءت الأقدار أن ينطبق عليه اسمه، فتركوه هناك، ليكبر بعيدًا عن الصحراء، وتُكتب له حياة مختلفة تمامًا.
لكن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، إذ تدفعنا الصدف أحيانًا نحو مصائر لا نتوقعها. يراه أحد أقاربه مصادفة في المستشفى الأمريكي حيث نشأ، فيذهب إلى والده "خلف" ليخبره أن ابنه الذي ظن أنه مات، لا يزال على قيد الحياة. وبعد محاولات مضنية لإقناعه، يذهب خلف إلى المستشفى ليتأكد... وبالطبع، يكون هو ابنه. لكن كيف يمكن إقناع هذا الفتى بأن هذا الرجل هو والده؟ كيف يُنتزع فجأة من بيئة يعرفها ويألفها، ويُلقى به في عالم غريب عنه؟ أن يُغادر من نشأ معهم في المستشفى ليعود إلى الصحراء، إلى عائلة لا يعرفها، وأرض لا يفهمها؟
"معيوف" — الذي رفض اسمه الحقيقي وأصر أن يُعرف بـ"يوسف" كما اعتاد — وجد نفسه فجأة ملزمًا بأن يعيش حياة الصحراء. تبدّلت حياته في لحظات، وبينما بدا في البداية أن الرواية تحكي قصة لمّ شملٍ إنساني، سرعان ما تبين أن المسألة أعقد بكثير. أتساءل — كما تساءلت إحدى الشخصيات — هل نحن نقوم بإنقاذه فعلاً أم نزيد حياته تعقيداً؟ ظننت في البداية أن الجواب بسيط: نعم، نحن ننقذه. ثم اكتشفت أنني كنت مخطئًا.
"لا شيء يخفّف من ألم الإنسان أكثر من لومه الآخرين. اللوم أسهل وسائل تعايش الإنسان مع آلامه وهزائمه في الحياة. لهذا، يبحث الإنسان عن شخص يلومه، أكثر من بحثه عن شخص يحبّه."
معيوف لم يتأقلم مع حياة الصحراء. لم يفهمها ولم يشعر بالانتماء إليها. من هؤلاء الذين يدّعون أنهم أهله؟ عائلته الحقيقية في المستشفى، هناك حيث البحر، وشجرة السدر، وفاكهة الكنار، وكل الوجوه التي أحبها وتعلّق بها. اضطر إلى مسايرة ذلك الرجل المتزمت الذي يُصر أنه والده، يراقبه بنظرات متشككة، لكن معيوف لم يكن ينوي البقاء، بل كان يعدّ الأيام حتى تأتي الفرصة المناسبة ليهرب... إلى المستشفى، إلى أهله الحقيقيين.
لكن، يا معيوف، كيف تهرب من الصحراء؟
ومن هنا، يأخذنا الكاتب "عبدالهادي الجميل" في رحلة داخل الصحراء، رحلة حقيقية ومليئة بالتفاصيل الدقيقة عن الحياة البدوية: طقوسها، طعامها، علاقاتها، وصراعات أهلها. ينقل لنا أنماط العيش، بل ويغوص في خصوصيات مثل تربية الإبل والأغنام، وكل ذلك بسرد غني، يُشعرك بحرارة الشمس ووعورة الطريق.
وما جعل الحياة أكثر احتمالًا لمعيوف، كان وجود أخته "دماث"، التي كانت اللين وسط القسوة. وقفت بجانبه، حمتْه من غضب والده، ووجهته، وكانت سنده الوحيد في هذا العالم الجديد. ثم جاء "صادق"، صديق والده، ليمدّه بالكتب ويحثه على التعلم، في محاولة لإبقاء جذوة المعرفة التي اكتسبها في المستشفى مشتعلة، وجعله مختلفًا عن أقرانه في الصحراء.
لم يتوانَ الكاتب في وصف قسوة الصحراء، ولا الطريقة التي يحيا بها أهلها، لكنه، في الوقت ذاته، لم يُخفِ حبه لها ولما تحمله من رمزية وروح. كنت أجد أحيانًا في سطور الرواية أفكارًا متناقضة، نابعة من صراع داخلي بين الحنين إلى الصحراء من جهة، والحاجة الملحّة للتواجد في المدينة من جهة أخرى. وكأن الرواية كلها تعقد مقارنة خفية طوال الوقت: بين الخوف من المجهول الذي تحمله المدينة، وبين صرامة الصحراء التي — رغم قسوتها — تظل متوقعة، ويمكن التعايش معها. هذه المقارنة، أدعي بإنها، هي جوهر الرواية. إنها حالة التيه التي يعيشها معيوف، والتي تدفعه للركض خلف السراب، متمسكًا بحلم العودة إلى المستشفى الأمريكي، وكأنه المنقذ الوحيد. يظن أنه إذا عاد إليه، ستعود حياته إلى ما كانت عليه قبل أن تُنتزع منه قسرًا.
نحن نتابعه وهو يركض، ونخاف عليه من المصير المجهول. نراه يهرول، ونرتعب من الحقيقة التي تقترب منه. أيهما أشد قسوة؟ الصحراء بكل جفافها ووحدتها؟ أم الواقع الذي يُسقط أحلامه واحدًا تلو الآخر؟
يركض معيوف، ويركض، ويركض... فهل سيصل إلى سرابه؟
هل سيجد في نهايته أمانًا فُقد؟
أم سيبقى إلى الأبد... له من اسمه نصيب؟
3.5/5
السابق | 1 | التالي |