اسم الرواية: #بيت_القبطية
تأليف: أشرف العشماوي
تصنيف الرواية: ديني / اجتماعي
دار النشر: المصرية اللبنانية
عدد الصفحات: ٢٣٩ صفحة
سنة الإصدار: ٢٠١٩
التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐
⭐ "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
الفتنة بكل أشكالها بغيضة وممقوتة، فما بالكم ونحن بصدد الحديث عن رواية تناقش أخطر أنواع الفتنة وأشدها فتكًا بالمجتمعات والأفراد، ألا وهي الفتنة الطائفية، التي بمجرد أن يشرع المتعصبون هنا أو هناك في إشعالها، فإذا بها تقضي على الاخضر واليابس، محدثةً ندوب وجروح غائرة يصعب التئامها إلا بعد القضاء عليها واجتثاثها من جذورها.
⭐ هذه هي ثالث قراءاتي للكاتب أشرف العشماوي بعد روايتي "سيدة الزمالك"، والسرعة القصوى صفر"، إلا أنني أكاد أجزم أن بيت القبطية هي أفضلهم على الإطلاق، فالقضية التي تتناولها الرواية شائكة وبالغة التعقيد، غير أنه من اللافت للنظر أن العشماوي سخر خبرته المهنية كقاضٍ لخدمة الرواية وأهدافها، وهو ما تستطيع أن تلمسه بوضوح في التفاصيل القانونية والجنائية والقضائية التي تزخر بها فصول هذه الرواية.
⭐ رواية بيت القبطية تغوص في أعماق الريف المصري، لكنه ليس كأي ريف.. إنه ريف محترق ومشتعل تؤججه نار الفتن والتوترات الطائفية التي يحلو لبعض المتزمتين من مختلف الأطراف بقاءها مستعرة نتيجةً لأفكار بالية وهدامة تنتشر كالسرطان في جسد المجتمعات الفقيرة والأكثر فقرًا، فتصيبه بالعجز والوهن والضعف، لا سيما في ظل غياب الوعي بمفهوم المواطنة، والحق في الحياة لكل فرد بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه. وما يفاقم من حدة المرض وتعاظم تأثيره هو السياسة الأمنية المتبعة في مثل هذه القضايا - كما جسدتها الرواية - وهي سياسة مسك العصا من المنتصف بأن يتم قيد جميع القضايا ذات الصلة ضد مجهول، بدلًا من الضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه إشعال فتيل هذه الفتنة في أي زمان ومكان.
⭐ يجري سرد الرواية عبر صوتين رئيسيين، هما صوت وكيل النيابة نادر فايز كمال، واختيار هذا الإسم تحديدًا له مغزى قصده الكاتب، ومعلمة اللغة العربية هدى يوسف حبيب، واختيار مهنة هدى هنا أيضًا ليس اعتباطيًا، لكنه ذو مغزى وقيمة مهمة أراد العشماوي أن يبرزها. كلاهما ساقته أقداره إلى العيش بقرية الطايعة أو "التايهة" كما يحلو لأبناءها تسميتها.
⭐ تستهل الرواية أحداثها بانتقال نادر فايز كمال للعمل وكيلًا للنائب العام بالطايعة وهو مثقل بالمخاوف من هذا المجهول الذي يواجهه. وسرعان ما تتجسد هذه المخاوف على أرض الواقع بعد أن هجم على استراحته حشدًا من الفلاحين يحملون مصابيح زيتية ومشاعل ترتفع ألسنة اللهب منها، وهم في حالة ثورة وهياج، لينغمس نادر بعدها في التحقيق في سلسلة لا نهائية من الخلافات والنزاعات والصراعات والجرائم التي تحركها الفتنة الطائفية. وعبثًا حاول نادر إحقاق الحق كما تعلم في دراسته، لكنه اصطدم بأن الشرطة هنا باتت مقتنعة بتطبيق قاعدة "المساواة في الظلم عدل".
⭐ أما الشخصية المحورية في الرواية فهي هدى يوسف حبيب، السيدة المسيحية التي فرت إلى قرية الطايعة بعد أن أرغمتها أمها على الزواج من شخص مسلم، لتعيش معه كافة أنواع العذاب من ضرب وسب وإهانة، إلى أن تحين لحظة حاسمة بين هدى وزوجها لاذت بعدها بالفرار مستقلةً القطار الذي أقلها دون إرادة منها إلى الطايعة. فكيف ستجري بها المقادير هناك؟ وهل سيضحك لها القدر أخيرًا؟ أم كُتب عليها أن تواجه فصلًا آخر - وربما فصلًا نهائيًا - من فصول حياتها البائسة؟
⭐ الرواية حيكت بأسلوب أدبي رصين وبليغ، وإن خيم عليها طابع الحزن والشجن نتيجةً لكثافة الأحداث التراجيدية من قتل وحرق وتدمير وتسميم وغيره.
⭐ الحق أن هذا العمل لامس شغاف قلبي، فأنا صعيدي المنشأ عشت هناك قرابة الخمسة وعشرين عامًا الاولى من عمري، عاينت خلالها مختلف الأضرار التي ساقتها الرواية، بل وربما ما هو أكثر من ذلك، تحديدًا خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، عندما كنت أصحو من نومي في مدينتي على خبر حرق أحد محلات الذهب، أو إشعال النار في أحد بيوت الله، ناهيك عن المعارك التي كانت تنشب لانتقال أحدهم من هذا الدين إلى الآخر، وكأن الجميع قد نسي كلام الله عز وجل في كتابه الكريم: "لكم دينكم ولي دين".
⭐ يطرح أشرف العشماوي في نهاية الرواية تساؤلًا جوهريًا: ما قيمة أن تكفر غيرك وتشغل نفسك بمصيره في الآخرة وتنسى أن تعيش دنياك في سلام؟
⭐ نهاية الرواية جاءت حزينة صادمة، لكنها شديدة الواقعية. ففي مثل هذه الأجواء التي يسود فيها القهر والظلم والفقر والاضطهاد، يدفع الثمن أناس مسالمين تمنوا الحياة، لكنهم ماتوا كمدًا وحزنًا على ما رأوه من عذاب وقسوة ورمي اتهامات بالباطل، في حين يلوذ المجرمون والمؤججون لهذه الفتن بالفرار، ليستمر الصراع ما بين الخير والشر، ما بين الرغبة في التحرر من الافكار الرجعية الهدامة اوالبقاء أسيرًا وعبدًا لها. وفي خضم كل ذلك، يتواصل نزيف الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
⭐ من مكامن القوة في هذه الرواية غلافها الذي جاء بديعًا معبرًا عن أجواء الريف المصرية التي تشع طيبة ونقاء، باستثناء هؤلاء الشرذمة من المهووسين المتعصبين الذين يتحينون أي فرصة لتأجيج الفتن وإشعال الصراعات لإثبات أمر واحد فقط لتابعيهم وهو أن الآخرين لن يدخلوا الجنة في الآخرة.
⭐ اقتباسات راقت لي:
⭐ أؤمن دائما بالإشارات والعلامات، فنحن في متاهة، وطرق الخلاص تشابهت علينا، والعلامات منحة لا ترد لنهتدي.
⭐ "ما تسمعش غير صوت ضميرك السياسة لو تدخلت في القضاء أفسدته والقانون لو تدخل في أفعال الساسة لأصلح من حالهم".
⭐ كلنا نولد أبرياء .. براءة لا تلبث أن تتخلى عنَّا عاجلا أم آجلا، طالما نعيش بين فكي مجتمع مزيف، لا يشبع من التهام الأنقياء وتشويه الأسوياء، ولا يسأم أبدًا من اجتذاب مزيد من الضحايا كل يوم.
⭐ تابعت إجراءات المحاكمة في قضايا الجنح بملل، لا دور لي تقريبا سوى الوقوف مع كل قضية تُنادَى لأردد ذات العبارة.. "النيابة تطلب تطبيق مواد الاتهام". بات الأمر أشبه برسالة صوتية مسجلة، أظن أنها تنال من الهيبة ولا تُرسخها لدى الناس.
⭐ لا يمكنك مساعدة أحد على الحياة إذا فشلت في اختيار القصة المناسبة لإقناعه بها.
⭐ ابتسمت في ضيق من أحلام اليقظة التي أصابتني، ثم ابتعلت مرارة ابتسامتي وأنا أفكر في دولةٍ مثل فرنسا التي أصبحت على ما هي عليه الآن لأن ديجول لم يضرب قاضيًا في مكتبه مثلما حدث للسنهوري باشا في الخمسينيات عندنا، ولم يفصل ديجول آخر لرفضه الانضمام للتنظيم الطليعي الفرنسي، ولم نسمع يوما عن إعلامي في قناة برلين اليوم يشكر القضاء الألماني النزيه، أو رجل أعمال بريطاني ينشر إشادة بالقضاء الإنجليزي الشامخ في صحيفة الجارديان، ربما لو حدث ذلك لاعتبروها جريمة لا تُغتفر ، وإهانة بالغة لا يمحوها إلا سجن قائلها.
⭐ لم أعد أرى أقباطا ومسلمين، رأيت مهووسين متعصبين من الجانبين، يعيشون في جحيم طوال حياتهم، فقط ليثبتوا لتابعيهم أن الآخرين لن يدخلوا الجنة في الآخرة.
⭐ أؤمن بأن للخيل عِزَّةً لا يفهمها المرء بسهولة، تحزن ولا تبوح.. تتألم ولا تنكسر .. ولما يفيض بها الكيل تموت... لكنها تموت واقفة.
⭐ قهر واقعي أحلامي وبخّرها، دائما الواقع يغلب الحلم، يستعيد حقوقه منه بسرعة، لا يترك الأحلام تحجبه زمنا طويلا.