"سرعان ما تعلم بعض المقامرين ترويض وجوههم، فيرتدون فوق ياقات قمصانهم قناع بارد من تبلّد الحس، ويُجبرون التجاعيد الموجودة حول أفواههم على الاتجاه لأسفل، ويسحقون انفعالهم تحت أسنانهم المتصلبة، ويبسطون عضلات وجوههم المفعمة بالحيوية ليرسموا لل مبالاة اصطناعية." - ٢٤ ساعة في حياة امرأة للنمساوي ستيفان زفايج 🇦🇹
فيينا. أنتحي ركنًا قصيًا في مقهى عتيق وأنيق. كان من الممكن أن أتأمل تفاصيل المكان لساعات، إلا أن تلك الرواية الصغيرة لزفايج قد استأثرت باهتمامي طيلة الوقت الذي قضيته في المقهى: رواية تتوشح بالأمل وتطفح باليأس على حد سواء، وتختزل مجلدات من دراسات السلوك الإنساني في ضربات فرشاة دقيقة وبالغة الحساسية، لا تجود بها سوى بصيرة نافذة وفهم عميق لمعضلة الظرف الإنساني.
هل ترتبط الفضيلة بحسن النوايا فقط؟ أم أنها تخضع لمحددات الأعراف الاجتماعية ولا تتجاوزها؟ هل تبرر الرغبة في إنقاذ نفس بشرية الانزلاق نحو معتركات أخلاقية وممارسات تتعارض مع القيم؟ وهل تلك القيم ثابتة أم متحولة؟ تتناول الراية قصة امرأة نبيلة تتعاطف مع شاب أدمن صالات القمار فخسر كل ما يملك وعزم على الانتحار. تفعل المرأة كل ما في وسعها لإنقاذ الشاب، بل وتتعلق به عاطفيًا وتسعد بالتحول الذي طرأ عليه قبل أن تتلقى صدمة العمر.
كعادته، يعرّي زفايج زيف الأحكام المسبقة ويبرز دور الصدفة/القدر في تقرير المصائر، انطلاقًا من فكرة بسيطة مفادها أن حدث بالغ الصغر قد يحول مسار حياة بأكملها، وأن الرغبة في مد يد العون للآخرين قد تستلزم انحرافًا عن قيمنا الشخصية والجمعية. أحكم زفايج صياغته لإيقاع متصاعد ينتهي بصدمة يتبعها "برد" شديد يعتري القاريء بنهاية الرواية، كما أفرد مساحات لوصف تفاصيل قد تبدو ثانوية، إلا أنها عين الحالة الإنسانية، لعل أبرزها مشهد وصف الأيدي الجاثمة على طاولة القمار وتباين اختلاجاتها بين توتر وتشنج وطمع وانبساط في متتالية تكاد تماثل دراسة فنية لديورر أو دافينشي.
#Camel_bookreviews