اقتباسات من رواية مدن الحليب والثلج

وحين اختارها القدر صرتُ أبكي وأنا أحمد اللّٰه، حمدته كثيرًا؛ لأنه أمهلني ثلاثة أشهر أملأ عيني منها، أتدرّب على فقدها، لا كما فقدتُ أبي، مباغتًا، جارحًا، دون أن أهيئ نفسي لليتم.

من يستطيع أن يشرح كيف تعيش أمّ فقدت طفلتها دون أن تموت معها؟

‫ لا دليل استخدام لهذا النوع من الفقد، لا إرشادات للنجاة، لا خارطة طريق لمن نُزِع قلبه وهو ما يزال حيًّا.

حريّتي، ليست في لباس، ولا طعام، ولا كلماتٍ منمّقة في كتب التربية أو القانون، بل في قدرتي على اتخاذ قرار، قرارٍ واحدٍ فقط، كلّ يوم، يشبهني، يصدّق قلبي، ويليق بمبادئي.

لا تقتلك الطعنة الغادرة فورًا، هي تتركك تنزف

كلّ الذين عادوا من المعارك سالمين، لم يعودوا أنفسهم. الحرب لا تقتل فقط، هي تُغيّر من تبقى.

الألمُ مختلف حين تعود إلى شيء تعرفه ولم يعد يعرفك، طرقاتٌ حفظت خطواتي لم تعد تشعر بي، هواءٌ يحمل رائحة ياسمين امتزج برائحة غربة. دمشق الحلم، مدينةٌ لم أعد متأكدًا إن كنت أنتمي إليها، بعد كلّ ما مررتُ به.

هي، رغم صغر سنها، ترى ما أعجز أنا عن رؤيته، تفهم بعيني طفولتها ما لا تفهمه عيناي.

‫ «أنتِ لستِ ضحيّة، لستِ نتاج ما فُرض عليكِ، كل ما حدث هو اختياركِ، فلا تدّعي العجز».

أنا الآن صوت الغضب المؤجّل، والمرايا التي كسرتها تنكسر عليك.

أنا الآن صوت الغضب المؤجّل، والمرايا التي كسرتها تنكسر عليك.

لكن السنة انتهت، ولم ينتهِ اليُتم.

أدركتُ أخيرًا أنّ الإنسان لا يُصقل بالكمال، بل بالتشظّي. وأنّ في كلّ شرخٍ داخلي، بذرة وعيٍ تتفتّح… تمامًا كما يولد الضوء من قلب الانفجار.

أدركتُ أخيرًا أنّ الإنسان لا يُصقل بالكمال، بل بالتشظّي. وأنّ في كلّ شرخٍ داخلي، بذرة وعيٍ تتفتّح… تمامًا كما يولد الضوء من قلب الانفجار.

أشدّ أنواع الوحدة، أن تجد نفسك غريبًا وسط من يملكون روحك.

الجاذبية ليست في مرآة، ولا في نظرةٍ عابرة، هي في امرأةٍ تنسلّ من ماضيها وتمضي دون خوف. امرأةٍ تمزّق الصورة التي رسمتها لها الظروف، وتعيد نحت ملامحها بصورة أبهى. امرأةٌ لم تعد تعيش على أطلال البارحة، وإنما تبني مجدها من تجربتها بكلّ آلامها. امرأةٌ لا تخشى رحيل رجلٍ، ولا تنتظر عودته. امرأةٌ تفهم أن الوجع، إن أحسنّا الإصغاء له، يرسم خارطةً نحو الحرية.

حين تكفّين عن الترقّب، عن نظرة العالم لكِ، تدركين ــ ولو متأخرة ــ أنّكِ لم تُخلقي لتكوني ظلًّا تابعًا… بل سيّدة الضوء.

النوايا حين تصفو تعيد ترتيب فوضى القلب، تمنحه دفئًا كاد ينساه.

هناك جرائمُ تُرتَكَب بتواطؤٍ صامت يمنحُ الجلاد الشرعية لسلطته على الضحية. حين تنكر الحماية وجود الألم، يصبحُ العالمُ بأسرهِ شريكًا في الجريمة، تمسي الحياة مسرحيّة عبثيّة، المذنب يُصفق له، والضحية تُجَرَّد من يقينها حتى تشكك في جراحها.

ما الذي تفعله بنا كلماتٍ غاب كاتبها بينما ظلّ صوته حيًّا؟

‫ كيف تتحول المذكرات إلى محكمةٍ مؤجلة، إلى جروحٍ تتفتح تباعًا بأثرٍ رجعي، إلى قصاصٍ لا يمكن النزول عنه؟

‫ حين نقرأ مذكراتِ من رحل، لا نفعل ذلك بدهاءٍ ومكر غالبًا، إننا نحاكم أنفسنا ونحن نقلبُ الصفحات، بحثًا عن خيطٍ قد فاتنا، عن صرخةٍ لم نسمعها في وقتها، عن كلماتٍ لم نقلها قبل أن يصبحَ الصمت سلاح الجريمة. نحن لا نقرأ فحسب، نحنُ نحملُ إرث الغائب على أكتافنا، نحمله كأنه عبءٌ وعقابٌ لا فكاك منه.

‫ فالحقيقة لا تموت بموت صاحبها، تبقى نابضة في حروفه.

البيت يضيق، يلفظني كما يلفظ البحر غرقاه. الليل طويل، والوحدة ثقيلة، وصوت أمي يتردد في رأسي؛ تحاول أن تخبرني بشيء، أن تواسيني، لا أسمع سوى وجوم يشبه قبرها، يوشك أن يصبح قبري أيضًا.