مراجعة كتاب سايكوسينما
▪️"تأتينا جميعًا أفكار غريبة ومخيفة وأحيانًا غير مقبولة من آن لآخر تسمى (الأفكار الدخيلة)، هذه الأفكار لا يقبلها عقلك في الأحوال العادية ويتجاهلها بسرعة، كأن تفكر مثلًا عما سيحدث لك إذا قفزت من فوق مبنى شاهق، أو قد يتبادر إلى ذهنك أفكار دينية معينة كالسؤال عمن خلق الله عز وجل مثلًا. لكنك في الأغلب ترفض هذه الأفكار وتضعها في نطاقها المحدد بسرعة، فتقول إنها لا تمت لشخصيتك بِصِلةٍ، وإنك لا تؤمن بها ولا ترغب في تحقيقها أو حتى النطق بها، فتنتصر في هذه المعركة الذهنية، ولكن هناك مرضى لا يستطيعون تجاهل مثل هذه الأفكار بسرعة بل على العكس تثير بداخلهم مشاعر القلق والخوف والتوتر".
ولعل السينما سواء الأجنبية أو العربية جسدت كثير من هذه الاضطرابات النفسية والمخاوف الإنسانية التي يتحول بعضها إلى مرض، ولعلك تستحضر معي فيلم " Silver Linings Playbook” أو ما ترجم للعربية بعنوان " المعالجة بالسعادة "، وفيلم "Rain Man” الذي يتناول قصة أحد المصابين بطيف التوحد، أو فيلم بئر الحرمان للراحلة سعاد حسني، وفيلم الأخوة الأعداء المأخوذ عن الرواية الروسية الشهيرة «الإخوة كارامازوف».
▪️ويعتبر كتاب "سايكوسينما" وهو العمل الثاني للكاتب الدكتور إسماعيل إبراهيم، استشاري أمراض المخ والأعصاب والطب النفسي، الذي تخرج في "كلية الطب" جامعة الإسكندرية عام 2006، وحصل على العديد من الشهادات في تخصصه، إسماعيل إبراهيم نشر العديد من الأوراق العلمية البحثية، وصدر له سابقًا كتاب "نيوروسينما": رحلة استكشافية لأمراض الأعصاب في عالم السينما عن دار نشر المحرر عام 2024.
▪️كتاب "سايكوسينما": رحلة استكشافية في عالم الطب النفسي على شاشة السينما – الجزء الأول، مزيج من النوع الاجتماعي النفسي المعرفي في إطار يجمع بين الطب والفن، صادر عن دار المحرر عام 2025، كتبه في أكثر من ثمانين ألف كلمة، بعدد 486 صفحة، بلغة سردية عربية فصيحة.
▪️من خلال الكتاب يقدم الكاتب رسالة عميقة عن قضية اجتماعية هامة، وهي أن المرض النفسي ليس وصمة عار سائدة، فالمرضى بحاجة إلى البوح، إلى الاندماج في مجتمع يتقبلهم، وكيف يتقبلهم وهو لا يعلم شيء عن طبيعة ما يعانوه؟!
▪️تتمحور فكرة الكتاب حول عالم الاضطرابات النفسية، وطريقة فهمنا للأفكار والمشاعر والصراعات النفسية التي تؤثر على سلوك الفرد وحالته النفسية، وكيف صورت السينما المريض النفسي.
وهنا بدأ الكاتب كتابه بقول أحد الشعراء القدماء: ولقد عيروني بالجنون فأجبتهم... أهوى جميلًا والجنـون فنون، أخذنا الكاتب - كما ذكر في جانب عنوان الكتاب - في رحلة استكشافية طويلة ولكنها ممتعة بالنهاية، يكشف لنا فيها الانقلابات التاريخية التي شهدها الطب النفسي في نظرياته النفسية وطرق التشخيص والعلاج، وكيف تداخل الطب النفسي مع الخرافات والأساطير والروحانيات والممارسات الديـنية باختلاف مذاهبها.
▪️كما تحدث عن رمز من رموز الطب النفسي الحديث وهو عقار "بروزاك" أحد مضادات الاكتــئاب، وكيف تحولت تلك الحبوب إلى "أيقونة" في عالم الطب النفسي والدواء الأشهر في التسعينات، وتحدث أيضًا عن الدور الذي لعبته الصدفة في ظهور الأدوية المضادة للاكتــئاب، كما سرد لنا قصة الليثيوم السحري.
▪️وأشار الكاتب بنعومة خالصة إلى الكتـاب المقـدس في علم الطب النفسي وهو "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية العقلية"، وتحدث عن تاريخ إصداراته والمنشور من قبل الرابطة الأمريكية للطب النفسي، ودومًا خلال عرضه بالكتاب يشير لهذا الدليل، ففي أحد إصداراته تكلم عن مدى ارتباط بعض الاضطرابات النفسية ببعض الاضطرابات الأخرى مما يزيد من تعقيد الحالة.
▪️لم ينسَ الكاتب ذكر دور الروابط والمنظمات الدولية بالتثقيف المجتمعي وتقديم الدعم النفسي للأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية، كما ذكر "فرويد" في صورة سيرة ذاتية مختصرة عنه عرض فيها شخصيته المثيرة للجدل وعرض لنظرياته وصورته التي عرضتها السينما العالمية. كما أشار للمقارنة التي عقدها الفيلسوف الفرنسي "فوكو" بين منهج المسلمين في التعامل مع الاضطرابات النفسية والعقلية وموقف الغرب منها.
▪️وفي اللحظة التي يعتقد فيها الكاتب أنه بدأ بفقدان القارئ، بعد أن أغرقه في توضيح النظريات النفسية وتفنيدها، يضعنا في جو من الإثارة والتشويق وينقلنا إلى أحد الأفلام السينمائية التي تصور أحد الاضطرابات النفسية، فشعرت معه أنى أستمع لبرنامج نادي السينما للراحل الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله الذي كَبُرتُ على تغطيته لمهرجانات السينما العالمية، وكان سببًا لحبي وكثير من أبناء جيلي للسينما.
▪️برع الكاتب في عرضه لأهم الأفلام التي صورت الاضطرابات النفسية على شاشة السينما العالمية واحدًا تلو الآخر، ووضح الخلط الذي تسببت فيه لدي المشاهدين، واهتم بشكل خاص بإبراز الجوانب الإيجابية والتي منها "زيادة الوعي العام بالاضطرابات النفسية وزيادة التعاطف والدعم للمرضى، والمساهمة في تقليل الوصمة الاجتماعية لدى المصابين".
ولم ينسَ الكاتب ذكر الجانب السلبي من تلك الأعمال السينمائية، وأهمها هيمنة الصورة النمطية السلبية وتعزيز ربط الاضطرابات النفسية بالعنف والشر.
▪️عرض لنا الكاتب أدق التفاصيل عن أهم الاضطرابات النفسية وهي الفصام، الاكتئاب، الانتـ/حار، الوســواس القهري، اضطراب ثنائي القطب، اضطراب ما بعد الصـدمة، اضطراب طيف التوحد، حيث يتعرض لتاريخ الاضطراب وأعراضه وأسبابه وطرق تشخيصه وعلاجه.
▪️أسلوب الكاتب هو سر المتعة فالعمل أشبه برواية عن كونه كتابًا علميًا متخصصًا، بأسلوب سردي ممتع يحكي لنا خلال الرحلة قصص مشوقة من التاريخ البعيد، مثل قصة كيوبيد وسايكو آلهة الروح والحب والطيبة في الميثولوجيا الإغريقية الرومانية، وقصة أوديب ملك طيبة من الميثولوجيا الإغريقية، وقصة ملحمة جلجامش، وأسطورة أسبرجر، ناهيك عن قصص الأبطال الحقيقيين للروايات التي تم اقتباس الأفلام السينمائية منها، وكيف ظهرت براعة الكاتب في ربط تلك القصص بمحتوى الكتاب.
▪️كأحد محبي الأفلام السينمائية اكتشفت عدد من الكلاسيكيات السينمائية التي غفلت عنها وأشار إليها الكتاب، أبهرني كيف حللها وبيَّن كيف صورت تلك الأعمال المريض النفسي في أنماط ستة وهي: القاتـــل المتسلسل، والمنعزل اجتماعيًا، المتمرد، المجــرم العنيــف، العبقري ذو القدرات العقلية الخارقة، مدعي المرض النفسي للهروب من جرائــمه أو صورة مثيرة للسخرية.
▪️يثير الكتاب كثيرًا من الصراعات داخل عقل القارئ في مواجهة الوحش الأكبر الذي يواجهه في حياته وهو المحافظة على الإنسان بداخله، كما يثير بعض التساؤلات منها :
- من هم المرضى الأكثر معاناة ضمن جميع مرضى الاضطرابات النفسية؟
- ما هي متلازمة بليوشكين؟
- ماذا لو جمع المريض بين أكثر من اضطراب؟
- ما هي حكاية الفص الجبهي؟ وما هي وظيفته بالضبط؟
- ما هي نظرية الأم الباردة أو الأم الثلاجة؟ وما علاقتها باضطراب طيف التوحد؟
- ما هو "كود هايز"؟ وهل له دور في تقييد التعبير الإبداعي لصناع الأفلام وتجاهل الاضطرابات النفسية؟
- ما الفرق بين الهو والأنا والأنا العليا؟ ما أصل كلمة مورستان؟
▪️في نهاية الحديث عن الكتاب، أرى أنه لا ينبغي أن تخلو مكتبة منه، ويستحق الترشح للعديد من الجوائز عن فئة الأعمال غير الروائية. ومع أني قرأته على تطبيق أبجد إلا أني في أقرب وقت سأسارع في اقتنائه ورقيًا، فالكتاب ليس صغير الحجم لكنه كبير الأثر.
▪️أما عن الكاتب فهو عالِم موسوعي، واسع الاطلاع في علم الطب النفسي، محلل وناقد بارع، صاحب رأى سديد.
▪️ومما زاد ثراء الكتاب ومحتواه أن الكاتب اختار شخصياته من أبطال الأفلام السينمائية التي عرضها، وكأنهم مرضى يحكون عن تجاربهم الشخصية، وأهم تلك الشخصيات التي علقت بذهني البطل "بات" في فيلم (Silver lining playbook)، و"هوارد" في فيلم (The aviator)، و "رايموند" في فيلم (The rain man)، وقد استمتعت جدًا بعرضه وتحليله لتلك الأفلام نظرًا لعشقي بمشاهدة السينما (برج الحمل بقى)، كما جعلني عند مشاهدة تلك الأفلام مرة أخرى أعيد التفكير في مجريات الأحداث ولكن بعين أخرى. كما أعجبت أن معظم الأفلام السينمائية التي تم عرضها بالكتاب مقتبسة في الأصل عن روايات تحمل نفس الاسم.
▪️لم أصب بالملل للحظة واحدة أثناء القراءة، بل على العكس، كنت في قمة الاستمتاع وكأني أقرأ رواية نفسية مثيرة متسلسلة الأحداث نالت كثير من اهتمام الكاتب ليخرجها بتلك الجودة للقارئ البسيط، بل يوضح له ما مر عليه من مفردات ومصطلحات في هذا المجال وأصلها مثل (التربنة – الماليخوليا) وكيف وصلت للقارئ بكل سلاسة دون تعقيد لتلك المصطلحات، فضلًا عن قصص حالات الاضطرابات النفسية عند بعض المشاهير الأحياء منهم والأمـوات.
▪️أجاد الكاتب عرض رسالته بلسان دكتور المخ والأعصاب، وبقلم كاتب ماهر يعرف أدواته، حين تحدث عن تاريخ الطب النفسي عبر العصور المختلفة، وكيف أنتقل بنا انتقالًا سلسًا لأنواع الاضطرابات النفسية في السينما العالمية، وتحليله للجوانب السلبية والإيجابية لها.
▪️من تحليله لتلك الأفلام عرض لنا عدة أشياء أغفلتها تلك الأعمال ومنها: دور العلاج النفسي، والتركيز على سلبيات الأدوية النفسية، ورفض المريض العلاج، وإظهار الطبيب النفسي بشكل غير كفء.
▪️استخدم الكاتب صوته الشخصي ليحكي لنا بلغة سلسة مميزة، غلفها في بعض الأحيان بجمل تضفي جوًا من المرح، كما طعَّمها ببعض من رباعيات شاعرنا المصري الراحل صلاح جاهين.
▪️أجاد الكاتب استخدام الصور المعبرة عن الأحداث والتي خدمته في توصيل فكرته، وأكثر صور أثارت إعجابي هي صورة هوارد الذي يتجنب لمس مقبض الباب لأنه "ملوث" منتظرًا وقتًا طويلًا بجواره حتى يأتي أحد من الخارج ليفتحه (من فيلم The Aviator)، وصورة الجنــدي السوفيــتي "يوجين كوبيتيف" تصور شكله يوم ذهب إلى الجبهة عام 1941 وشكله عندما عاد عام 1945 (الفرق بين الصورتين أربع سنوات فقط).
▪️أحسن الكاتب اختيار العنوان الذي يحمل معنىً عميقًا معبرًا جدًا عن مضمون الكتاب، كما أن تصميم وألوان الغلاف بوجوه الشخصيات الموجودة فيه كانت مميزة.
▪️استخدم الكاتب لغة التحاور مع القارئ فيقول له: هل أنت من عشاق السينما؟ بالتأكيد، وإلا لما كنت قد اشتريت هذا الكتاب في المقام الأول!
ومرة أخرى يحدثه منبهًا: نصيحتي لك ألا تشاهده لوحدك! فقط لا تفعل!
▪️يقدم الكاتب رسالة إنسانية واضحة عن أحد أهم مشاكل المجتمع وهي الاضطراب النفسي، ومرضاه، والعالم الذي يعيشون فيه من أماكن علاجية ومعالجين وأطباء وكيف يتقبلهم المجتمع، ودرجة وعي المجتمع بمعاناتهم الداخلية، بعرضه ذلك ليس في صورة مرضى حقيقيين مروا على طبيب بعيادته الخاصة، ولكن من خلال عرضه للأفلام السينمائية التي عرفتنا نحن على تلك الاضطرابات النفسية لدى أبطال تلك الأعمال، وكيفية تصويرها على الشاشة، وهل نجح في تصويرها بدقة أم لا؟
▪️في نهاية الكتاب أضاف الكاتب جزءًا خاصًا بالملاحق التي تضمنت:
- مجموعة من المقاييس النفسية والمستخدمة في تشخيص ومتابعة الحالات النفسية وتقييم شدة الأعراض.
- قائمة بأهم أنواع العلاج النفسي الرئيسية والتي تستخدم لعلاج مختلف الاضطرابات النفسية.
- قائمة بأهم الأفلام التي وردت بالكتاب (فيلموجرافيا) بعدد (51) فيلم.
- قائمة بأهم الأدوية المضادة للذُهــان.
- قائمة بأهم أنواع العلاجات النفسية الرئيسية.
- قائمة بأهم الاضطرابات النفسية التي وردت بهذا الجزء.
ثم ختمها بالمراجع والهوامش جعلني أصدق كل كلمة كتبت فيه.
▪️بخاتمة تثير الكثير من اللهفة وتمهيد أكثر من رائع للجزء الثاني، وما سيتضمنه من مواصلة الرحلة التي بدأناها مع الكاتب، ولكن سيطل علينا بجوانب أخرى مظلمة وسيعرفنا على اضطرابات جديدة وتطور العلاجات النفسية، وما قدمته السينما المصرية من أعمال فنية تناولت الاضطرابات النفسية، واستعراض لأهم أشرار السينما العالمية (السايكــوباتيين).
▪️وفي النهاية، لا أستطيع إلا أن أقول إنك ستعيش تجربة جميلة، وأدعو الله أن يمتعنا جميعًا بأدمغة طبيعية، ويمتعنا بالدوبامين والاسيتيل كولين والسيروتونين.
▪️كتاب ممتع ومفيد في قراءته، مناسب لكافة القراء، وتقييمي له 4.9/5.
إلى الملتقى في مراجعة أخرى.
د.محمد الشخيبي