اقتباسات رونالد شيكوريل

أما أمي فكانت أكثر سخطًا وغلًّا، حيث اتهمت العرب بأنهم يكثرون من «السلام عليكم»، والوعود الكاذبة التي لا يتم الوفاء بها أبدًا، وأنهم بارعون في النفاق الاجتماعي، ولا يواجهونك بالحقيقة ولا يفصحون عمَّا في نفوسهم ولا ما يدور في أذهانهم

❞ إننا لا نملك شيئًا، ولا يوجد شيء يمكن أن يكون أبديًّا، فكل شيء في الحياة مؤقت. ونحن لا نعرف شيئًا عن الندوب الظاهرة بجسد الشخص الذي أمامنا ❝

لطفية النادي (وُلدت بالقاهرة يوم ٢٩ أكتوبر ١٩٠٧ وتُوفيت بها عام ٢٠٠٢)، أول امرأة مصرية عربية أفريقية تحصل على إجازة الطيران عام ١٩٣٣، كان رقمها ٣٤، أي: لم يتخرج قبلها على مستوى المملكة المصرية سوى ٣٣ طيارًا فقط، جميعهم من الرجال، كما أنها أول امرأة تقود طائرة بين القاهرة والإسكندرية، وثاني امرأة في العالم تقود طائرة بمفردها. تزوجت الدكتور شوارز Schwarz السويسري وعاشت معه سنوات طويلة في لوزان.

تُشكل الأغاني حساسيتنا، فهي تعمل على تفتيح قلوبنا لتعتمل في داخلنا مشاعر معينة ربما لا تجد طريقة أخرى لتتولد.

لكل مدينة بصمتها الخاصة من الأحاسيس والألوان والأصوات والأشكال، ولا يوجد في العالم مدينة لها عمق القاهرة الغامض.

كان يمكننا السباحة في ألغاز القاهرة مثلما يسبح المرء في مياه البحار. أنا لا أقول الغوص وحسب، والتعرُّض لتغيير مفاجئ في الأحاسيس. لا، فالقاهرة لا تتوقف عن الاستحواذ عليك ولا عن تجديد روائحها ومفاجآتها. كالرمال، اللغز يلمسك رويدًا رويدًا. والحبكة تستمر. كتابة محفورة أو منقوشة، ابتسامة، وضجيجها المعهود.

«إننا لا نملك شيئًا، ولا يوجد شيء يمكن أن يكون أبديًّا، فكل شيء في الحياة مؤقت. ونحن لا نعرف شيئًا عن الندوب الظاهرة بجسد الشخص الذي أمامنا»

‫ يبدأ هذا الكتاب وينتهي بڤاليري، ابنة رونالد ووالدة بِنْ، فالمذكرات –ولا أقول الكتاب؛ لأن نية النشر لم تكُن في أذهانهم آنذاك– كتبها رونالد إلى بِنْ حفيده الوحيد بناءً على طلب الابنة/ الأم، فالأم كانت ترغب بشدة في تعريف ابنها بتاريخ عائلتهم في مصر وحسب.

‫ هذه المذكرات هي دمعة، ولكنها أيضًا صرخة حب للبلد الذي وُلدتُ فيه، والذي شهد ولادة أبي وأمي. لقد أردتُ أن أبيِّن في مذكراتي مدى عمق جذور مصر في كينونتي وهُويتي، فمصر هي جزء عضوي مني.

أظن أن شهوة الكتابة نفسها تأتي من الأداة المستخدمة، من متعة تحريك القلم على الورق، الإحساس بالمقاومة، والاحتكاك الخفيف والأشكال التي تتجسد أمام عينَي المرء وهما تلاحقان ما خطه بيده.

وعلى الرغم من كل مساعي أبي والخطوات التي اتخذها من صالونه في بيتنا بجوريجو، فلا أظن أنه استطاع استرداد أكثر من بضعة آلاف من الدولارات. وعلى النقيض من ذلك، فإن عددًا لا بأس به من المحامين المصريين أثروا ثراءً فاحشًا جراء نزوح اليهود. وبعد مدة وجيزة، طوى والدي الصفحة، وتوقف تمامًا عن محاولة استعادة أي أموال.

وادَّعى محامٍ ثالث من القاهرة بأنه قادر على بيع فيلَّتين من أملاك أبي وطلب تفويضه في هذه المهمة. وبالفعل بيعت الفيلَّتان لأبنائه بسعر بخس، وكان المبلغ المتحصَّل من البيع كافيًا بالكاد لدفع الرسوم والضرائب وأتعاب المحاماة

؛ لأن شخصًا ما وضع كوم حجارة في زاوية من الأرض الشاسعة، وادَّعى أنها مسجد قيد الإنشاء، مِمَّا أبطل البيع؛ لأنه لا يُسمح ببيع أرض يقع عليها مسجد. كتب محامٍ آخر رسالة إلى أبي ادَّعى فيها أن المحامي الأول كان متواطئًا في بناء المسجد وأنه يستطيع إثبات ذلك، وهو على استعداد للدفاع عن مصالحنا في المحكمة. لم يكلف أبي نفسه عناء الرد.

وغني عن القول: إن ذلك المبلغ قد تبخَّر هو الآخر. ثَمَّةَ قصة أخرى، كان أبي يمتلك قطعة أرض بالإسكندرية لم تكُن تحت الحراسة القضائية، بالتالي كان يمكن بيعها وفقًا لأحد المحامين في مصر، إلا أن البيعة أُلغيت في آخر لحظة؛

لقد وافقت أخيرًا «جنرالي» على دفع ربع قيمة الاسترداد. محفور في ذاكرتي إلى اليوم تعبيرات وجه أبي في اللحظة التي تلقَّى فيها آخر رسالة من الشركة، مضمونها أنه لا يمكن دفع المبلغ المستحق إليه إلا إلى يد المستفيد شخصيًّا من شباك خزينة الشركة بفرعها في القاهرة.

إنني أتذكر، على وجه الخصوص، المراسلات المتبادَلة مع شركة «جنرالي Generali» للتأمين في إيطاليا. كان والدي المؤمِّن على حياته بمبلغ كبير من خلال هذه الشركة المستفيد من بوليصة التزم بدفع أقساطها لمدة ٣٠ عامًا، وكانت قيمتها الاستردادية تصل إلى مبلغ كبير، خاصةً بالنظر إلى الظروف المالية الصعبة التي كانت تمر بها الأسرة.

كنا في المدة التي عشناها في شارع جوريجو بلوزان نتحدث كثيرًا فيما بيننا عن مصر. ولا أتذكر قط سماع أبي ينتقد المصريين أو يشكو منهم. لكن فيما يخص العودة إلى العيش في مصر مرة أخرى، فقد كانت الأمور واضحة تمامًا ومحسومة بالنسبة له، لقد سمعته مرارًا يقول: «لقد طُويت الصفحة».

لكل مدينة بصمتها الخاصة من الأحاسيس والألوان والأصوات والأشكال، ولا يوجد في العالم مدينة لها عمق القاهرة الغامض.

وكأن ثَمَّةَ ستارًا من الغموض عميقًا ومثيرًا قد أُسدِل. مزيج من الروائح المميزة والزوايا والشقوق الداكنة والأطلال غير المتوقَّعة والنباتات غير المعروفة والأصوات التي تشعرك بالأمان، كل ذلك يحثُّنا على اكتشاف قصة وربط الحلقات بعضها ببعض وفهمها.

أصبح الحي المجاور للصحراء منطقة مكتظة بالعمائر المتلاصقة، شوارعه شديدة الازدحام، والناس في حالة فوضى عارمة على الطريقة المصرية. كل ذلك بدا وكأنه كان على هذا النحو منذ الأزل. لا توجد فلل، ولا أثر لصحراء حتى بعد قطع مسافات طويلة بالسيارة. وفي لحظة، لمحت شجرتين أو ثلاث شجرات بونسيانا على حافة إحدى الطرق. لا شيء مِمَّا كان في الماضي، أأكون أنا الذي اخترعت كل ما هو مختزَن بذاكرتي؟! لم تتجلَّ أيٌّ من الأحاسيس والمشاعر الجميلة منذ الطفولة. المعادي التي ألفتها أصبحت سرابًا.. مجرد خرافة.. صور مشوشة في الدماغ. «لقد قُلبت الصفحة».