اقتباسات يسري هاشم

كان شيئًا عجيبًا أن يُحاصِرَ الجيش الأردنيُّ الفدائيين من تلك الجهات الثلاث، وأن يضطرَّهم للاتجاه نحو العدو، الذي هُم أصلًا موجودون لمُحارَبَتِه!

كان مدهشًا للجميع أن قائِدَي الصراع الدَّامي الذي دار على أرض الأردن خلال الأيام الماضية هما القائدان العربيان الوحيدان -تقريبًا- اللذان هطلت دموعهما أمام كاميرات التليفزيون أثناء تشييع جنازة عبد الناصر

لَفَتَ نظري وأنا في الشارع أنَّ جميع الجبال حول عمَّان -ولونها أبيض- كانت كُلُّها مكتسية باللون الأسود الصادر من الأعلام السوداء التي علت كافَّة بيوتها؛ حُزنًا على عبد الناصر؛ فاقشعرَّ بدني من المنظر.

فأخبرني أن المكان وقع كُلُّه في فوضى عارمة، والحرس يجلسون على الأرض -وأسلحتهم إلى جوارهم- يبكون، القائد نفسه كان يبكي! عَلِمنا فيما بعد أن القتال توقَّف في كُلِّ عمان والأردن عندما أُعلِنَت وفاة عبد الناصر…

كنَّا نحلم بتحرير الأرض المغتصَبة، هناك في فلسطين، وانتهى بنا الحال إلى أننا وجَّهنا رصاص بنادقنا لصدور بعضنا البعض، نحن؛ الأشقَّاء، أبناء الدم الواحد، والمصير المشترك!

عندما انطلقت الرشَّاشات أصاب بعضُها مواسيرَ الصَّرف الصِّحِّي، والمياه، بدأت مواسير الصرف الصحي تُخرِجُ من باطنها قاذورات المجاري المُكدَّسة بها منذ عشرة أيام، فكانت تندفع بشدَّة فوق رؤوس المرضى وفُرُشهم، والممرَّات المليئة بأجسادٍ تغطِّيها الدماء والقيح والأتربة

المدهش في المسألة أن الأطباء أثناء تنقلهم بين المرضى الراقدين على الأرض كانوا يتحرَّكون وهم جاثون على رُكَبِهم؛ لأن الرصاصات والشظايا تدخل من الشبابيك دون استئذان!

لكن -فيما بعد- تَبيَّن لنا أنَّ بعض ضُبَّاط الجيش الأردني -خاصَّةً من الفلسطينيين- وبما أنهم كانوا مجبرين على تنفيذ التعليمات؛ فكانوا يقومون بالقصف المطلوب منهم، لكنَّهم كانوا يزيلون الرأس المتفجِّر من القذائف قبل استخدامها

عندما وصلنا إلى عنبر الأطفال المعاقين كان المنظر قاتلًا: أطفال يصرخون ويبكون، تَشتَعِلُ في بعضهم النِّيرانُ، خصوصًا في أطرافهم السُّفليَّة، بعضهم يحاول الزَّحفَ هربًا في كل اتجاه يستطيعون الوصول إليه، والبعض الآخر لا حراك به؛ لأنه لا يقدر على الحركة

كان الظَّلام قد بدأ يخيِّم عندنا حمل إلينا أحدُهُم نبأَ قصف مستشفى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصَّة، واشتعال النيران به! وسط ذهول كبير أصابنا جميعًا، وألجم ألسنتنا؛ فقد كان كثيرٌ من هؤلاء الأطفال مُصابين بالشَّلَل، ولا يقدرون على الحركة دون مساعدة

كان الظَّلام قد بدأ يخيِّم عندنا حمل إلينا أحدُهُم نبأَ قصف مستشفى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصَّة، واشتعال النيران به! وسط ذهول كبير أصابنا جميعًا، وألجم ألسنتنا؛ فقد كان كثيرٌ من هؤلاء الأطفال مُصابين بالشَّلَل، ولا يقدرون على الحركة دون مساعدة

حلَّ القَصفُ محلَّ الدعوة للصلاة. والمئذنة العالية -التي تطلُّ من فوق جبل الأشرفية على مدينة عمَّان كلها- زادت نوافذها بعد أن أصابتها مدفعية الدبابات.

أنا أعمل في الصليب الأحمر منذ أكثر من خمسين عاما، وحضرت حروبا اهلية في جميع أنحاء العالم، ولم أر مثل هذه الحرب في بشاعتها ، وقسوتها، وضراوتها، ولا أخلاقياتها