في أوقاتٍ كُثُر يضطرب العالم.. يجتاحهُ الجنون من كل الجوانب.. ينتشر الخوف ويصبح الذعر هو الحالة الطبيعية التي تتسلط علي نفوس البشر بفعل جنون الأقوياء واستفحالهم في الاستحواذ علي الضعفاء والتحكم في مصائرهم.. حينها لا يُمكن أن يلوذ الضعفاء لأحد غير الهروب.. غير الجنوح إلي تبعات القدر الصعب ومُغادرة الحياة المألوفة والتوجة لقدرٍ مجهول لعله يحمل من الرحمة والأمان ما يُشفي النفس من عليلها ويُسكِت ضوضاؤها التي لا تهدأ.
كانت مصر دائماً ملاذ المُستضعفين في كل العصور والأوقات.. قديمًا وحديثاً لم تُغلق أبوابها أبداً في وجه من يلجأ لها.. مصر لها خصوصية كبيرة كدولة والإسكندرية لها خصوصية أكبر كمدينة جمعت شتي الأديان والطوائف علي ضفاف بحرها وتاريخ مبانيها التي يشهد صمودها بذلك العرفان.
استهواني حديث الكاتب عن الاسكندرية ونظرتة المُحبة لها وتفاصيلة المسرودة عنها.. فصل ديفيد والمدن أذابني في جمال تفاصيل تلك المدينة التاريخية التي أُحبها.. أؤمن أن المُدن التي نُحبها تُغلف بسحرٍ خاص، لا يراه جميع من يعرفونها ولا حتي من يقطنون فيها، ولكن اسعدني الكاتب باستحضار ذلك السحر الذي شعرت به في كلماته عن حبيبتي الاسكندريه.
خطفنا الكاتب بأناقة من سحر الاسكندرية لعراقة القاهرة وتاريخها القديم..تركنا حكاية البدء جانباً لِنلج قصةً أُخري لا تدور أبعادها في المدينة والحضر..بل تنبت تفاصيلها في جو الريف والقرية..القرية التي طالما حُكِيَ عنها الكثير..ورغم الفوارق المكانية والأبعاد الاجتماعية..تلاقي الغُرباء علي شفا الزمن.. بعد ما كَتب القدر عليهم التلاقي رغم اختلاف ظروفهم وحتيٰ دياناتهم.
جذبني الاستحضار التاريخي السياسي الخاطف الذي زامن تلك الفترة التي عاشتها مصر في غُربتها وشتات أمرها بين المـُ حـ تـ ل والملك ومُدعين الدين..ليُثبت بالقَصّ أن الأوطان نفسها مهما كانت راسخةً بشوارعها وحواريها وميادينها.. فإنّ الغُربة والغرابة تكسو كل ذلك في أوقات الاضطرابات..
لا يُعرف عن مِصر أمومتها ولا يُحس ذلك إلا بالتمعن في النظر إلي حياة الغُرباء فيها..أينقص من أمر نفوسهم شيء ؟ أم يحيون كما تحويهم أوطانهم ومُجتمعاتهم مهما اختلفت الفئات التي ينتمون لها.
رواية كتبها بهاء عبد المجيد عن غُربة الروح والفِكر والجسد والدين والوطن.. لكنّه أودع فيها الكثير من الأُنس الذي خالط كُل هؤلاء الغُرباء في ميادينهم.. وأثبت أن القدر يضع في طريقنا الصُحبة والحُب اللذين يُخففان حِدة الغُربة مهما كانت الرحلة قاسية وطويلة.. ويجعلنا التلاقي يعمل في النفس كيفما يشاء.