بدايتي مع هذه الرواية جاءت بمجرد اختبار، قررت أن افتح صفحة واحدة لألقي نظرة سريعة، وجدت أنني قرأت عدت صفحات وأخذت منها اقتباسات وشعرت بضيق تنفس لا أعلم مصدره، فعلمت أنها ستكون رفيقتي في الأيام التالية لذلك.
بدأت أنا وأصدقائي قراءتها أجمعنا على شعورنا بالضيق والحزن، ولكن هذا لم يوقفنا أبدًا عن استكمالها وإنهائها في وقت قصير، رواية مدن الحليب والثلج للكاتب جليلة السيد التي جاءت من بلدة يعيش فيها معظم أهلي فشعرت بالانتماء لها ولحكايتها دون سبب واضح غير ذلك، لذا كنت أشعر وكأننا أعيش تلك القصة أعرف هذه اللهجة جيدًا يمكنني الاستماع لصوت الأبطال ولكنتهم، أعرف ملامحهم وكأنني أراهم أمامي يتجادلون ويحزن ويبكون!
بدأت الرواية مع طفلة وجدت نفسها تًباع أو بالأحرى تتزوج من رجل يكبرها بسنوات لتنجب طفلة مثلها اسمتها (جمان) تأخذنا الطفلة الكبيرة وطفلتها الصغيرة معًا في رحلة للكشف عن الكثير من المساوئ التي تتعرض لها المرآة العربية بداية من الزواج في عمر صغير والطلاق وتربية الأطفال وحدها دون سؤال الأب الذي يكون مجرد اسم في بطاقة لا غير.
لا تتوقف رحلة المعاناة هنا، بل أن كل رجل يقابل بطلة الرواية وتتخيل أنها ستجد فيه الخلاص على العكس من ذلك تجد فيه الوحدة والخديعة وربما القت.ل بدم بارد، وليس كل الق.تل ذب.ح ود.ماء!
تبدأ رحلة لؤلؤه ما بين البحرين وسوريا والسويد، الأول وحيدة وبعد ذلك معها عصام الذي كنت أعتقد أنه سيكون المنقذ لها من كل الألم السابق، ولكنني لم أعرف أنه يخبئ معه ألم لن يمكن الشفاء منه أبدًا.
نواجه مع لولو الكثير من المشكلات التي يواجهها العرب المهاجرين سواء كان للسويد أو غيرها، ثم تأتي جائحة كورونا لتعصب بلولو التي ذهبت للبحرين قبل انتشارها لتُحتجز هناك، معها طفلها حديث الولادة وجمان هناك في مدينة الثلج ومعها عصام، كيف يمكن للأم أن تحتمل فراق طفلتها الصغيرة لأيام وشهور طويلة، وكأنه كان تمهيد لشيء ما لم نكن نحن أو لولو نتخيله!
نتعرف على السوسيال في السويد والذي بقوانينه المجحفة يمكنه أن يختطف الأطفال من حضن ابائهم بحجج واهية لا معنى لها ليحرمونهم الأثنين من بعضهم لسنوات وربما للأبد، كشف الكثير من المستور في اعمالهم، بل ما فاجئني هو كيفية مواجهة عصام لكل والذي حدث بعد ذلك، واتجاه تفكير القارئ إلى جزء لنجد أن عصام يقوم بفعل مغاير تمامًا لما توقعته، ولكنه كان الحل الذي جعلني اتنفس مرة أخرى بعد رؤية يوسف وكريم ثانية.
عندما تُبكيني رواية أعرف أنني لن أنساها قط مهما قرأت، ولقد فعلت (مدن الحليب والثلج) ذلك بي، لقد بكيت مع لولوه، بكيت مع جمان، بكيت على حالهم، كنت أشعر بغصة في قلبي تقبضه ولا يمكنني التنفس، كنت أود شفائهم جميعًا من كل هذا الألم وأنا معهم، الفقد والوحدة وسرقة الأحباء لا يمكن الشفاء منها مهما مر الزمن، لم أتوقف عن البكاء حتى نهاية الرواية وحتى مع ابتسامتي لرؤية الشمس التي أمكنها أن تشرق من جديد في حياة لولوه وأطفالها، ولكن الغصة لازمتني حتى النهاية، وتركت ثقل في قلبي لا يمكنني نسيانه حتى مع انتهاء صفحاتها، الرواية قاسية؛ ولكن الواقع أكثر قسوة بكل تأكيد.
حبكة الرواية كانت متماسكة لم أجد بها ثغرات، والأهم كان لغة الكاتبة، التي سحرتني وجعلتني أود أخذ الرواية كلها كاقتباسات ولقد فعلت بالفعل مع الكثير من الجُمل التي أثرتني وجعلتني أتوقف أمامها، تشبيهات وتركيبات الجمل كانت نقية وحديثة الولادة على يد الكاتبة، ولكن لفت نظري فقط كلمة (أمومة معطلة) التي قرأتها سابقًا في رواية ولفتت نظري أيضًا.
اقتباسات:
❞ الأمومة؛ أن تضعي طفلك جهةَ القلب، وتضعي بقية العالم، على وضع الطيران. ❝
❞ كلُّ ألمٍ هو امتدادٌ لوجعٍ قديم، وكلّ سقوطٍ هو تتمّةٌ لسقوطٍ سبقه. الحياة تُعِدُّنا للفقد على جرعاتٍ خفيّة، حتى لا نفزع حين يدهمنا بأكمله. تدريبات ناعمة قبل الطامة الكبرى، ❝
❞ سريرٌ بغطاءٍ باهت، خزانة ملابسَ مائلةٌ في إحدى زوايا الغرفة، تشهد اعوجاج حظي العاثر. مرايا تعكس صورتي، متكسرة إلى شظايا، يخيل لي أنها تهمس بصوتٍ مكتوم: «أنتِ مثلي، محطمة». ❝
❞ وآمنتُ أنّ بعض الفقد يشبه ثقبًا لا يُردم، مهما حاولنا، تهزمنا هشاشته. ❝
❞ وأنا صامتة، لا لأنني بخير، بل لأنّ الوجع حين يفيض، يُخرس اللسان. والقلوب التي ذاقت أكثر مما تحتمل، تتعلّم ألا تُظهر نزيفها، يصبح الدم جزءًا من النبض، يمرّ خفيًا، كما تمرّ الخيبات. ❝
❞ لم أخبرها الحقيقة. ولم أقل لها أنّ اليُتم لا يوجع فقط، هو يجرح أيضًا. ❝
❞ أنظر إليك، وأدرك أنني لا أحتاج إلى القصص، فأنت حكايتي، وكلّ ما لم يُكتب لي بعد ❝
❞ في صدري، لم يكن الحنين شوقًا ناعمًا يربّت على كتفي، ولا شعورًا هادئًا يُحتمل. كان وحشًا جائعًا، ينهشني طوال هذه السنين، كلما حاولتُ إخماد صوته ازداد صخبًا، وكلما ظننتُ أنني تآلفتُ مع البعد، تجذّر في المسافة أكثر. ❝
❞ رحلت أمي،
تركتني فريسةً لوحشةٍ باردة، ❝
❞ البيت يضيق، يلفظني كما يلفظ البحر غرقاه. الليل طويل، والوحدة ثقيلة، وصوت أمي يتردد في رأسي؛ تحاول أن تخبرني بشيء، أن تواسيني، لا أسمع سوى وجوم يشبه قبرها، يوشك أن يصبح قبري أيضًا. ❝
❞ لا تقتلك الطعنة الغادرة فورًا، هي تتركك تنزف ❝
❞ كلّ ما حدث تركني معلقًا بين يقينٍ وضياع، كمن يدور في متاهةٍ بلا مخرج، خطواته تلتفُّ حول نفسها دون هدى. أفتّش في العتمة عن وجه اللّٰه.. وأسأل أين طريق اللّٰه في كل هذا العبث ❝
❞ الحياةُ ليست تلك الخطط التي نرسمها ونراجعها كلّ حين، الحياةُ مفاجآت تضربُ كالعواصف، تقتلع كلّ شيء من جذوره، تتركنا عالقين في الخواء. ❝
❞ الحياةُ ليست تلك الخطط التي نرسمها ونراجعها كلّ حين، الحياةُ مفاجآت تضربُ كالعواصف، تقتلع كلّ شيء من جذوره، تتركنا عالقين في الخواء. ❝
❞ عليّ أن أكون قوية، أواجه عالمًا أصبح أكثر جنونًا ووحشيّة. لم يعد هناك منطق، كلّ شيء أصبح مؤقتًا، هشًا، معرضا للانهيار. الموتُ يتربصُ بكلّ الزوايا، يطرقُ الأبواب بلا استئذان، يحصدُ الأرواح بلا رحمة. ❝
❞ ❞ الأقرباء يرحلون، هذا جزءٌ من الحياة؛ لكن أن يرحلوا بهذه السرعة، رحيلاً جماعيًا. هو فقدٌ لا يُحتمل. ❝
❞ جسدي كله صار ثقلًا لا ينتمي لي، أطرافي انسلخت عني، شجرةً تُقتَلَع من جذورها ببطء. ❝
❞ العالمُ صار ضبابًا، لا أرى المشهد بوضوح، تفاصيله تتلاشى، الأصوات تُصبح طنينًا بلا معنى، جسدي يهوي إلى الداخل أكثر مما يهوي نحو الأرض.
إذن كلُّ ما مررتُ به مجرد مقدمات لموتٍ حقيقي. ❝
❞ الغربة شعورٌ قاسٍ بالعجز، بالتيه في أرضٍ لا تعترف بك مهما حاولت. ❝
❞ أغلقت عينيّ. أردت أن أنام، أن أغيب عن كلّ هذا.
لا نوم في الحداد، لا نوم حين يصبح جسدك ساحة نِزال. ❝
❞ الغفرانُ قوة تتطلب مساحةً من السلام، سلامٍ لا أعرف كيف أصل إليه وأنا ما زلتُ أنزفُ من جروحٍ لم تلتئم. ❝
❞ أنا صبرتُ، أُلجمتُ صراخًا في داخلي، وابتلعتُ الخذلان مرّة بعد مرّة، تعاطيت جرعاتٍ سامة من القهر، تجرعتها ببطء معتقدةً أنني سأنجو. ❝
❞ أتيتُ كمن ينقّب بين أنقاض حياته، يبحث عمّا يستحق الإنقاذ، يتخلص مما يجب أن يتركه في الرماد. ❝
❞ حين نقرأ مذكراتِ من رحل، لا نفعل ذلك بدهاءٍ ومكر غالبًا، إننا نحاكم أنفسنا ونحن نقلبُ الصفحات، بحثًا عن خيطٍ قد فاتنا، عن صرخةٍ لم نسمعها في وقتها، عن كلماتٍ لم نقلها قبل أن يصبحَ الصمت سلاح الجريمة. ❝
❞ والشوق.. أقسى من الندم والخوف معًا، أشدّ من كلّ شيء. رأسي على الوسادة. أبكي بصمت، أرسم في رأسي وجوههم كلّ ليلة، أحاول أن أبقيهم معي دائما، أقاوم نسيانًا يبتلعني معهم ❝
❞ ماذا يفعل من يحاصره الخوف والخذلان؟ ماذا يفعل حين يدرك أنّ الأمانَ وهمٌ، والعدالةَ ليست سوى سرديّة محتملة لا تصدق إلّا نادرًا ❝
❞ حين تكفّين عن الترقّب، عن نظرة العالم لكِ، تدركين ــ ولو متأخرة ــ أنّكِ لم تُخلقي لتكوني ظلًّا تابعًا… بل سيّدة الضوء. ❝
❞ بدأتُ أستردّ صوتي…صرتُ أكتبني، كما أستحق أن أكون. لأكون نفسي. كلّما اشتدّت العاصفة، ثبتُّ على خيارٍ لا رجعة فيه: أن أكون حقيقية، صادقة. ❝
❞ أدركتُ أخيرًا أنّ الإنسان لا يُصقل بالكمال، بل بالتشظّي. وأنّ في كلّ شرخٍ داخلي، بذرة وعيٍ تتفتّح… تمامًا كما يولد الضوء من قلب الانفجار. ❝