حائط الذكريات يشرق في أرض اليابان
في بلاد يمتزج فيها سحر التكنولوجيا، وخيال الفن، وأصالة الماضي، نجد أنفسنا فجأة في مواجهة حكايات مسكونة بخصوصية اليابان وتفردها..
هكذا اختارت الكاتبة نهى عودة ان تروي سيرة اليابان بعيونها. تسير فوق أوراق أشجارها الذهبية المتساقطة، تطاردها صور شديدة الحميمية عن عائلتها وهي التي بنت لها حائطا للذكريات يعيد الوصال مهما تباعدت المسافات.
في كتابها الرابع ضمن سلسلة "عن العشق والسفر"؛ تحتمي الكاتبة بتيمتها الأقرب للقلب، أو العائلة وبناء الذكريات، تلك الضحكات والمواقف التي يصعب نسيانها.
تؤمن الكاتبة أن الأبناء سيعودون حتما لحائط الذكرى، وصوره الدافئة، مهما تظاهروا بعدم اكتراثهم، حتما سياتي اليوم وستنساب الذكريات الحلوة كشلال يثير الضحك والفخر ويذكّر بالجذور وإن غربت شمسها.
في صفحات الكتاب رحلة نتابعها بشغف لحظة بلحظة مع أسرة الكاتبة، فنزور المتاحف والمعابد والأبراج الشاهقة والحدائق النضرة وصولا لدور الترفيه، تسحرنا العمارة الممتدة عبر عصور سحيقة، والتي برعت الكاتبة في وصفها بحكم خبرتها وأسفارها حول العالم وقلمها الذي يمزج أجناس الكتابة في آن.
ويظل الملمح البارز للحياة اليابانية في صمود الطقوس والثقافة التقليدية بالتوازي مع السبق الحضاري والتكنولوجي.
قلب الحداثة
بمجرد نزولنا مع الكاتبة شوارع طوكيو؛ تداهمنا مستحدثات العصر، فماكينات البيع الذاتي وأزرار إشارات المرور بل ودورات المياه الشفافة تملأ الميادين، وحتى مراحيض البيوت ذكية، في بلد تقدس النظافة والنظام، وتعتبرها جزء من احترامها لهويتها وحضارتها.
وستنبهر قطعا بتجربة الكاتبة مع القطار الطلقة شبيه الطائرة والذي تطل من نافذته على مناظر بديعة لجبل فوجي والقرى الريفية. كما سنقترب من سر "الكبسولة الزمنية" التي تفتح مرة كل مائة عام، وتحوي ملايين الصور المعبرة عن تطور الحياة اليابانية لأجيال قادمة، سواء اكانت مقاومتها لقنابل هيروشيما وتطورها أو تلك البذور التي يحتفظون بها إذا ما أفنت البشرية بعضها البعض!
لكن الأطرف في عالم التقنية على الإطلاق هو الروبوت "فلفل" والذي ينتشر في المراكز الرئيسية ويمتلك ذكاءً يجعله أقرب لرغبات الزبائن، بل ويلتقط معهم سلفي ويمازحهم. الروبوت أسسه رجل يُعرف بـ"بيل جيتس اليابان" وهو ماسايوشي؛ ونلمح معها من سيرة صعوده كم الإصرار الذي تملكه منذ بدأ حياته طالبا فقيرا مهاجرا من كوريا، وحتى أسس بنك البرمجيات الأول في البلاد، ويصبح ثامن أغنى رجل في العالم، ويواصل خوض مخاطراته المحسوبة والتي كان منها متجر "علي بابا" الشهير، ورؤيته لتكنولوجيا المستقبل في "سوفت بانك" الذي يستثمر في الذكاء الفائق.
عودة للطبيعة
ومن الحياة المادية، للحياة الطبيعية، وتأمل الأشجار والمسطحات الخضراء الشاسعة والتي تزين وجه اليابان، ومنها حديقة هيبيا القريبة من القصر الإمبراطوري وبرج طوكيو. نتأمل وادي القيقب وأزهار الكرز وثمارها الطيبة التي يعتقد اليابانيون أنها تجلب السلام والجمال والصبر؛ إذ لا تصل لقمة ارتفاعها إلا بعد نحو عشرين عاما، أما أوراقها المتساقطة فتذكر بأن الحياة عابرة ولا شيء يدوم للأبد. وفي رحلة الكاتبة نلمح محبة اليابانيين لشجرة الباولونيا كذلك وازهارها الأرجوانية وأخشابها التي يصنعون منها أثاث عش الزوجية.
كان المهندس "ناجاوكا" هو مهندس تلك الحدائق في بدايات القرن العشرين مستغلا عناصر البيئة والتضاريس في تصميماته المتناغمة، وكانت له فلسفة بأن الحدائق يجب أن تصبح للعامة وليس النبلاء في القصر فحسب.
تزخر اليابان بالقصص الشعبية والأساطير، وهو امر مسلٍ للغاية لتتبعه في الكتاب، ومنها قصة تل الثعبان، وجيزو حارس أرواح الأطفال الذين فقدتهم عائلاتهم مبكرًا، لكن اليابانيين يخلدون أساطيرهم في هيئة تماثيل صغيرة وطقوس لا تزال تمارس حتى اليوم!
ناطحات وأبراج
يسير الناس بجدية وسرعة في شوارع محاطة بناطحات سحاب وأبراج شاهقة؛ وأشهرها برج طوكيو العريق والذي لا يتجاوزه طولا في البلاد غير برج سكاي تري، ويرمز لنهضة اليابان الحديثة كقوة اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، والأجمل هو تلك الجولة التي اصطحبتنا الكاتبة فيها لأدوار البرج الداخلية والتي تحوي بين جنباتها عالما آخر من التحف والإطلالات والهدايا الدافئة وأهمها مجسم البرج المشع بطاقة الحب.
تدلف بنا الكاتبة أيضا لتذوق الفنون اليابانية، ومنها فن الفسيفساء، والمرتبط بفن التأثير الياباني، تتأمل جدارية من آلاف الصور؛ يصنع قلبها جدارية أخرى لصورها العائلية التي تحمل ذكريات دافئة سعيدة تدخرها للأيام.
أرواح بين الجدران
وخلال تجوالها في المزارات الدينية؛ تفتح نهى عودة بابا إلى الماضي وفلسفة الأجداد اليابانيين؛ فهناك مثلا المزارات الشنتوية والتي تضم طقوسا روحانية يمارسها الكثيرون في حياتهم اليومية، لطرد الأرواح الشريرة التي طرأت على النفس الطيبة.
وفي معبد "زوجوجي" الذي تأسس في القرن الرابع عشر الميلادي، نقترب من معتقدات طائفة البوذيين الجودو والتي انتشرت سريعا في شمال البلاد.
من خلال هذا المعبد نتعرف على آخر حكومة عسكرية إقطاعية حكمت اليابان وهي عائلة "شوجونية" وقد عملت على توحيد البلاد الممزقة لإقطاعيات، ما جلب استقرارا وازدهارا، ولكنها اوقعتها في عزلة سياسية خشية زيادة النفوذ الأجنبي، فحظرت السفر وقمعت المبشرين بالمسيحية، وامتدت العزلة لقرنين حتى أدرك اليابانيون حاجتهم للحاق بالركب مع انفتاح "ميجي" والذي جعلها قوى عسكرية وصناعية عظمى مع الحفاظ على إرثها الثقافي.
ترمز بوابة ذلك المعبد لفلسفة روحية عظيمة وهي تطهر المرء من الأمراض الثلاثة وهي الجشع والغضب والجهل!
وتتامل الكاتبة تلك الوشائج ببن الحضارات القديمة، وكما نرى في حجر باليرمو استخدام البخور في الطقوس الجنائزية والحياتية لطرد الأرواح الشريرة عند الفراعنة، وهو طقس ياباني ظل شائعا داخل القصور والبيوت أيضا.
سيرة الحجر
في متحف أوساكا، تعود بنا الكاتبة لتلك القلعة الأيقونية الأشهر في اليابان، وكعادتها في كل الكتاب تمزج الحكي بالصور المفصلة التاريخية والمعاصرة، وتعود للموسوعات لتأتي بماضي الحجر والبشر. وقلعة أوساكا المحاطة بحديقة مبهرة في تنوعها، والتي تتربع فوق تلة مرتفعة، كانت مركزا للمقاومة الشعبية التي وقفت في طريق الحاكم نوبوناغا الذي سعى لتوحيد اليابان تحت سطوته، وانتهى الامر باستسلام رهبان القلعة، واحتراقها بالكامل حتى بناها خليفته من جديد عام 1583. وبنهاية عصر الخليفة انتهت سلالة تويوتومي الحاكمة على يد شوجونية صاحب معبد زوجوجي في طوكيو، ونلمح كم ساهم حكم الحديد والنار في سقوط عائلات حاكمة بعد انحلالها الداخلي.
روح الانطلاق وسحر المذاق
تهتم اليابان بالتجارب الترفيهية الممتعة؛ بعضها يمتزج بالتاريخ كما يحدث في متحف كايودو وسحره الذهبي المشع من الطلاسم الهندوسية المعبرة عن القوة والهيبة كرأس النمر والتنين، وهو متحف يعود لشركة أنتجت شخصيات جودزيلا وكينج كونج وغيرها.
لا تمضي الكاتبة قبل ان تدهشنا برحلة غرف الشاي التقليدية والتي كانت تصنع من الذهب، وحصر التاتامي والطاولة، والتي لا تزال كثير من البيوت تحتفظ بها كطقس يعكس جوهر الثقافة التقليدية.
واذا اردت الانطلاق فما عليك الا زيارة متنزه يونيفرسال ستديوز، الأكثر قدرة على رفع الأدرينالين بألعابه الافعوانية. وقد تفضل قيادة سيارة ماريو كارت صغيرة، أو تجوب مدينة الديناصورات، أو تحيي أبطال الأنيمي الذين لطالما عشقناهم في طفولتنا وبطولات مصارعي الساموراي.
ومن بين أجمل التجارب التي تبهرك في اليابان، زيارة المطاعم المحلية في أوساكا، تلك المدينة المضيئة والمكتظة بالسياح ليل نهار والمعروفة بـ"مطبخ اليابان"، وفيها تجد أسواقا بلا حصر، ومطاعم بحرية لها تجارب طهي مثيرة كأسياخ كوشياجي المقلية من اللحوم والخضر، كما يمكنك زيارة مطاعم آسيوية تمنحك تجارب فارقة كتذوق البرياني الباكستاني. وهكذا تنقلنا الكاتبة لمحبة هذا الشعب للحياة بألوانها.
مسجد طوكيو .. دموع وبسمات
في مسجد طوكيو كان مسك ختام الرحلة؛ ومع دموع اغرورقت بالمآقي حين التقت بنساء من ماليزيا تعلمن في الأزهر وعلمن أنها من بلد الأزهر حيث تعلموا. حديث يدور عن حياة المسلمين في اليابان والتحديات التي يواجهونها. كان المسجد مهيبا بلمسات عثمانية تعود لزمن بعيد حين أقدم أول ياباني على اعتناق الإسلام بعد غرق اسطول أرطغل وحين جاء لاجئون تتريون فارين من بطش الروس ليحط بهم الرحال في تلك الأرض.
هكذا كانت النفحات التي تأسس عليها مسجد طوكيو ومن وقتها لم يعد ساحة دعوية تقليدية بل منارة حقيقية ودرة معمارية وساحة سلام بين ثقافات متنوعة ولكل الباحثين عن الهدوء والسكينة والدين الحقيقي. وفي الوقت الذي كان المحتل يغرس أعلامه ذات اللونين الأبيض والأزرق بهوس في كل مكان في القدس، كان طوفان من الأعلام الفلسطينية ترفرف في كل مكان في العالم وفي أرض طوكيو حيث احتشد الرافضون لحرب الإب..ادة على غزة.
تتأمل الكاتبة جدار ذكرياتها، وقد تعلمت مع زوجها فن صناعة الذكريات؛ تلك التي تحيا حين نسقيها، وحين نبحر فيها فتتدفق من جديد ونرغب في أن نقصها على أحبائنا لتزهر من جديد.