مغامرة العقل الأولى > مراجعات كتاب مغامرة العقل الأولى > مراجعة Wafa Bahri

مغامرة العقل الأولى - فراس السواح
أبلغوني عند توفره

مغامرة العقل الأولى

تأليف (تأليف) 4.5
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

قرأتُ هذا الكتاب أول مرة منذ سنوات، كنت آنذاك غارقة في انبهار الناشئة أمام كشف معرفي مبهر، أسَرني سحر الميثولوجيا لا باعتبارها تراثًا من الماضي بل بصفتها مرآة لعقل الإنسان الأول حين واجه العالم بألغازه ورعبه وتوقه للمعنى. كتبت مراجعة قصيرة حينها، كنت فيها متأثرة ومندهشة، ولكني لم أكن قد امتلكت بعدُ العدة الفكرية ولا الحس النقدي القادر على مساءلة ما أقرأ، بل كنت أتماهى مع كل ما يثير الإعجاب، فأصبغ عليه المعنى الديني الذي عرفتُه، وأحاول التوفيق بين المعطى الأسطوري واليقين الإيماني، دون أن أتأمل المسافة بين التجربتين أو أن أسائل ذاتي حول طبيعة هذا الالتقاء الممكن والمستحيل.

واليوم، وبعد إعادة قراءة متأنية للكتاب، وقد تغيرت أدواتي ونضجت نظرتي إلى الأسطورة والدين والتاريخ والإنسان، شعرت أن مراجعة جديدة تستحق أن تُكتب، لا بوصفها تقريرًا عن كتاب بل تسجيلًا لتجربة فكرية شعورية تلامس جوهر السؤال الوجودي: من نحن؟ ومن أين بدأ هذا العقل الذي أراد أن يفهم، فاخترع أولى حيله التفسيرية: الأسطورة؟

ينتمي كتاب "مغامرة العقل الأولى" إلى تلك اللحظات القليلة في حياة قارئ جادّ، حين يشعر أنه لا يقرأ فحسب، بل يُستدرج إلى رحلة كونية طويلة تعيده إلى بواكير السؤال الأول: من خلق هذا العالم؟ ولماذا؟ وما الذي يخفيه الغيب خلف الرعد والنار والطوفان والموت؟ فراس السواح لا يقدّم الأسطورة باعتبارها قصة ممتعة ولا باعتبارها دراسة جافة، بل بوصفها "نصا كونيا" وُلد من قلق الإنسان في فجر الوعي. هكذا يضع القارئ وجهًا لوجه أمام تجربة الإنسان الأولى في مواجهة الموت والخصوبة والحرب والشر، بل أمام محاولة صياغة نظام رمزيّ يُضفي على الفوضى شكلاً، وعلى الرعب طقسًا، وعلى الحياة معنى.

قراءة هذا الكتاب تضعك أمام ازدواجية ساحرة: من جهة، تشعر أن الإنسان القديم كان طفلًا خائفًا، يخلق من خياله آباءً سماويين وآلهة كي لا ينهار في وجه المجهول؛ ومن جهة أخرى، تدرك أنه كان في الآن ذاته فيلسوفًا بالفطرة، يحوّل كلّ شيء إلى سؤال، ويبحث في كل تفصيل عن نسق وتبرير ونظام.

يمضي فراس السواح في فصول الكتاب وكأنه يعيد بناء مشهد العقل وهو يتشكّل من رماد الأسطورة: من أساطير الخلق السومرية والبابلية، إلى قصص الطوفان، فالجحيم، فالفردوس المفقود، فثنائية الخير والشر، فالمخلص المنتظر، إلى كل تلك الصور الرمزية التي نجدها وقد تكرّرت بأشكال مختلفة في الكتب السماوية الثلاثة، بل وفي التراث الديني الإنساني برمته.

الأساطير كما يرصدها الكتاب ليست "أوهامًا" بقدر ما هي محاولة جادّة لفهم بنية العالم، إنها عقل بدائيّ ولكنه ليس ساذجًا، بل ينطوي على حدس ميتافيزيقي دقيق، وربما أكثر شاعرية مما يمكن أن تمنحه المعرفة العلمية الباردة.

ومع كل هذا العمق، لا يتورط الكاتب في التبشير بأية رؤية إيديولوجية، بل يقف في منطقة تحليلية، تتأرجح بين التاريخ والتحليل النفسي والفكر الديني، متأملًا المشترك بين الثقافات القديمة، دون أن يسقط في التعميم الفج أو الإسقاط الإيماني الساذج.

ثمّة صدمة جمال في هذا الكتاب. لا لأن الكاتب يسرد وقائع مذهلة فحسب، بل لأنه يعيد ترتيبها بطريقة تجعل العقل يتأمل والروح تنصت. في هذه اللحظة أجد أنني كنت يومًا متعجلة حين قرأت هذا العمل أول مرة، كنت مأخوذة بالمؤلف لا بالمؤلَّف، وبالدهشة لا بالسؤال، وها أنا أكتشف كم أن هذا الكتاب لا يُقرأ مرة واحدة، ولا بنفس واحدة. إنه نصّ يطالبك أن تكون قارئًا يقظًا، وأن تخوض مغامرة حقيقية في السؤال عن معنى الدين، وعن جدوى الأسطورة، وعن حضور الإنسان في شرطه التاريخي والتخييلي معًا.

ولا يمكنني أن أكتب عن هذا الكتاب اليوم دون أن أستدعي الكارثة الجارية في غزة. نعم، لا يبدو أن ثمة صلة مباشرة بين الأساطير القديمة وجرائم اليوم، ولكن حين نرى كيف تتحول آلة القتل إلى طقس جماعي تبرره الأساطير السياسية الجديدة، وكيف يتواطأ القطيع مع الطغاة، وكيف يُعاد إنتاج الخضوع بذات آليات التبرير الديني والأسطوري والإعلامي، ندرك فجأة أن "مزرعة الحيوان" و"مغامرة العقل الأولى" ليستا من عالمين مختلفين.

لقد صار الدم اليوم رمزًا، كما كان في الأساطير القديمة، ولكنه هذه المرة بلا طهارة، بلا ميثاق، بلا خلاص.

في هذا العالم، حيث تتحوّل الفجائع إلى أرقام، والمذابح إلى لغة تقنية، والموت إلى خبر موجز، نحتاج إلى العودة لا إلى الأسطورة بمعناها الساذج، بل إلى جذوة الإنسان الأولى حين كان يرى في كل شيء سرًّا لا آلة. حين كان العقل يبحث لا ليُهيمن، بل ليؤمن.

هنا ينهض نداء خافت لكنه ثابت: إن لم نبدأ مغامرة عقل جديدة، أكثر تواضعًا، أكثر تساؤلًا، وأكثر إنسانية، فإن النهاية لن تكون على صورة جنة مفقودة، بل على صورة أسطورة كاذبة… تُردّدها الشعوب وهي تسير نحو الهاوية.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق