تعود دعاء من جديد لاستكمال مشروعها عن شخصيات تعاني نفسيا. هذه المرة، الموضوع أكثر قسوة: خال يتحرش بابنة أخته أو ينتهك عرضها. ورغم أن الحكاية تبدو عادية، لكن ما يجعلها عملًا فنيًّا بامتياز هو أسلوب سردها وحكايتها، واللعب بالرمزية بين الغراب وقابيل. تلك اللعبة التي تتقنها دعاء، وتُثبت في كل مرة جدارتها وقدرتها على مزج الواقع بالتخييل، والحقيقة بالفانتازيا، لتقدّم عملًا ممتعًا حقيقيًّا رغم قسوته.
أجمل ما في الرواية هو انسيابيتها مع القارئ؛ فسردها سلس رغم ثقل الموضوع نفسيًّا، لكنها استطاعت أن تكتبه بأسلوب ممتع. ومن نقاط الإضافة التي تقدمها الرواية أنها تأخذك إلى اليابان، لكنك ترى وجهًا آخر مختلفًا تمامًا لهذا المجتمع الذي يبدو من الخارج مثاليًّا، بينما هو في الحقيقة قاسٍ، بلا قلب، يعامل البشر كتروس في آلة، فإن لم تنصاع للدوران قسرًا، استبدلوها بأخرى، أو ربما أعدموها نفسيا ببطء حتى تموت.
عندما سألتُ دعاء عن سبب كتابتها لهذه الرواية تحديدًا، أخبرتني أن الياباني الذي سُجن 48 عامًا بحكم الإعدام كان الدافع؛ لذلك تهدي الرواية إليه. في النهاية، حصل على براءته بعد أن حاولوا طوال الوقت إجباره على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها... 48 سنة! ثم اكتشفوا أنه بريء، فخرج.
اليابان هنا بطلة رئيسية، لكن ليس كمكان، بل كمجتمع، كعادات، كتقاليد، كطقوس، كبيئة كاملة. وقد نجحت دعاء نجاحًا كبيرًا في نقل روح البلد بطريقة ستشعرك كأنك سافرت إليه، ورأيت الأماكن، وتعاملت مع اليابانيين.
تنقلُ دَعاء أيضًا عالمَ الممرضات كمهنةٍ ونظرةِ المجتمع إليهنَّ، وتجعلُ القارئ يتعاطفُ مع الشخصية الرئيسية رغم كونها قاتلةً، إلا أنها ضحيةُ اعتداءٍ منذ طفولتها. الروايةُ، وإن كانت نفسيةً بامتياز، تظلُّ مشوّقةً إلى حدٍّ يجعلها تنساب بين يدي القارئ دون أن يشعر.
رسمتْ دَعاء الشخصيةَ الرئيسيةَ ببراعةٍ لا سيّما على المستوى النفسي، بين ثنائية الغراب وقابيل، وبين الضلالات والهلاوس، والصراع الداخلي الذي تعانيه البطلة؛ صراع الانتقام من أقرب الناس إليها بقتلهم بحقنةٍ. نتابعُ معها الحكايةَ بتشوّقٍ، نتساءلُ: إلى أين ستصل؟
في رأيي، تُعَدُّ دعاء من أهم الأصوات الأدبية على الساحة حاليًا، تبرهن دائمًا على امتلاكها مشروعًا أدبيًا واضحًا تسير عليه بثباتٍ منذ روايتها الأولى حتى الآن. وتمثل هذه الرواية نقلةً نوعيةً جميلةً في مسيرتها الأدبية، وهو ما توقعته منذ أن قرأتها كمسودة.