مراجعة رواية "يوم مثالي للبوح" – تأليف ابتسام شوقي
اخترت هذه الرواية لسبب بسيط ولكنه جوهري؛ عدد صفحاتها الذي يتيح قراءتها في جلسة واحدة أو اثنتين على الأكثر، حسب الظروف المحيطة. ففي بيئة ضيّقة، يملؤها الضجيج، ويصعب فيها التفرغ الذهني، يصبح من الصعب التفاعل مع روايات تتطلب تركيزًا عميقًا لفترات طويلة. ومع ذلك، لم أتوقع أن رواية بهذا الحجم ستلامس قلبي بهذا الشكل.
"يوم مثالي للبوح" رواية تحمل بين سطورها كمًا هائلًا من الذكريات التي انتُزِعت قسرًا بعد وفاة "أم هناء"، تلك الأم التي كان فقدها بمثابة شرخ عاطفي لا يُرمم. الشجن، الألم، الوجع، الغضب، والفقد... كل هذه المشاعر تجتمع في قلب واحد، أغلى من الروح ذاتها. ما جعل الرواية قريبة من قلبي هو أنها تشبه واقعنا كثيرًا، لا تصطنع العواطف، ولا تهرب إلى عالم خيالي مريح. هي رواية تتحدث بصدق وبلغة الحياة اليومية، وهذا ما جعلني أتعرّف على قلم ابتسام شوقي لأول مرة، ككاتبة اجتماعية واقعية تنبض بالصدق.
الرواية كُتبت بلغة سردية رصينة، تتخللها الحوارات باللهجة المصرية، ما أضفى عليها روحًا إنسانية دافئة. هذه المزاوجة بين العامية والفصحى كانت عذبة ومعبّرة، وأجادت الكاتبة من خلالها رسم مشاعر الندم، الألم، والخذلان بكل صدق.
كل شخصية في الرواية جاءت مختلفة، متناقضة، مليئة بالتفاصيل والمشاعر. سُردت فصول الرواية من وجهات نظر متعددة: عزة (والدة شريف)، وهناء، وشريف. هذا التعدد في الأصوات أضاف للرواية بعدًا نفسيًا وإنسانيًا عميقًا، خاصة في دائرة الحياة الضيّقة التي كانت تدور فيها "هناء".
ولا أنكر أنني شعرت بالنفور من شخصية "شريف" الذي اختار أن يضحي بعائلته من أجل امرأة أخرى. شعرت أنه يُجسّد شريحة كبيرة من الرجال في واقعنا، ممن نقرأ عنهم ونراهم في الأفلام والروايات وحتى في تفاصيل حياتنا اليومية. الرواية تُظهر لنا أن "فارس الأحلام" ليس إلا صورة مزيفة، انعكاسًا لخيالات رسمناها داخلنا، وغالبًا ما تصطدم بواقعٍ قاسٍ.
وما لفت انتباهي أيضًا هو دقّة الوصف: ملامح الوجوه، تفاصيل الجسد، أماكن الأحداث، وحتى روائح الطعام في البيوت. كل شيء صُوّر بدقةٍ تنمّ عن حسّ مرهف وقدرة عالية على التقاط التفاصيل.
أكثر اللحظات إيلامًا كانت لحظة اكتشاف الخيانة، لا من زوج أو حبيب، بل من الأم، بعد رحيلها. لا شيء أقسى من أن تهتز ثقتك بالشخص الوحيد الذي كنت تظنه ملاذك الأخير. هذا الانكشاف المؤلم عمّق الفجوة بين "هناء" والحياة.
الرواية لا تتحدث عن الوجع فحسب، بل تغوص في أعماقه. تفتح أبوابًا للبوح، تُعرّي العلاقات، وتكشف هشاشة الإنسان حين يُحاصر بالخوف، وتُبيّن كم يمكن للزواج أن يُصبح قيدًا حين يفقد الحب صدقه، خاصة عندما يقف الزوج في صورة "الرجل القاسي"، الذي لا يعرف سوى النرجسية والهيمنة، بينما تذبل زوجته مع الوقت، تمامًا كزهرة سُقيت بالإهمال.
الرسائل التي تركتها الأم كانت بمثابة شظايا من الحقيقة. لم تكن مجرد كلمات، بل كانت اعترافات، أسرار، وصرخات مكتومة خلفت أثرًا لا يُنسى.
"يوم مثالي للبوح" ليست رواية عابرة، بل تجربة شعورية كاملة. تتركك مشدوهًا أمام كمّ المشاعر التي يمكن أن تحياها امرأة، وأمام الأسئلة التي لا إجابة لها أحيانًا. رواية تلامس القلب، وتضعك أمام مرآة داخلك، لتراك كما أنت... بضعفك، قوتك، غضبك، وحُبك للحياة.
إنها رواية كُتبت بمشاعر حساسة، وأسلوب راقٍ، وتمنح القارئ الكثير من الدروس حول العائلة، والحزن، والفقد، والبحث عن الذات وسط ركام الوجع.
رواية أنصح بها كل من يبحث عن الصدق، لا البهرجة، وعن الحنين، لا التزييف، وعن قلم يعرف كيف يوجعك... بلطف.