فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباس

أنه لما اختلط المسلمون بالأمم الأخرى في العصر العباسي، وعرضت عليهم آثار الأمم وخاصة اليونان، نقل الناقلون إلى اللغة العربية فلسفة اليونان وطبهم وجغرافيتهم ورياضتهم وهندستهم؛ ولكنهم لم ينقلوا أدبهم ولا شعرهم ولا قصصهم ولا تمثيلهم؛ فكان موقفهم غريبًا، إذ سمحوا للعقل أن يتغذى بأنواع أخرى من الغذاء، ولم يسمحوا للعاطفة أن تتغذى بأنواع أخرى من الفن! بل أمعن في باب الغرابة أن يسمحوا بنقل نظريات فلسفية تتعارض في صميمها مع الدين الإسلامي، ولم يسمحوا أن ينقلوا ضروبًا من الشعر والأدب اليوناني لا تتعارض مع الإسلام في شيء! ولقد كان يكون في هذا التصرف بعض العذر، لو أن منبعهم في الشعر الذي يستقون منه منبع إسلامي، أما ومنبعهم الوحيد هو الشعر الجاهلي الوثني بما فيه من لات وعزى، وخمر وميسر، وشرك وأوثان. فالأمر جد غريب!

أعتقد أن من أهم الأسباب في ذلك أنه لو كان حملة لواء الأدب في العصر العباسي عربًا خلصًا لسمحوا للآداب الأخرى أن تعرض عليهم، ولأخذوا منها ما تستسيغه أذواقهم، وتجيزه مداركهم؛ ولكن كان أكثر حملة لواء الأدب أعاجم استعربوا. والأعجمي إذا استعرب كان قصارى همه وغاية كده أن يصل في فنه إلى العربي الأصيل، ولا تحدثه نفسه أن يبتكر في القديم، أو يجدد في الشيء الأصيل. أترى المصري — مهما بلغ في إتقان اللغة الإنجليزية — تحدثه نفسه أن يبتكر في الشعر الإنجليزي؟ أو الشامي مهما بلغ في إجادة اللغة الفرنسية أن يبتكر في الشعر الفرنسي؟ إنما يبتكر في الإنجليزية والفرنسية الإنجليزي الأصيل والفرنسي الأصيل؛ لأنه من الناحية النفسية لا يشعر فيها بعجز طبيعي، فكذلك الشأن في العربي الأصيل والأعجمي الحامل لواء العربية في العصر العباسي، وهناك من غير شك أسباب أخرى..

هذا الاقتباس من كتاب