فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباس

الحديث عن سلمان الفارسي ..

" ينشأ سلمان على دين وثني فيخلص له حتى يكون الموكَّل بالنار المقدسة يوقدها ولا يتركها، ثم يجيل عقله في هذا الدين فلا يرتضيه. ويبحث عن دين يعجبه فيهتدي إلى النصرانية، ولكن ليست النصرانية الشعبية، ولا النصرانية التي يحترفها رجال الدين، إنما هي النصرانية المتبتلة التي يخلص لها بعض أفراد قلائل من رجال الدين؛ فينقطعون عن العالم زهدًا وورعًا، ويتصلون بالله اتصالًا وثيقًا، ويبيعون له أنفسهم، فيتصل سلمان بأحدهم، ويتخرج على يده، ثم يلتحق بثان وثالث، كلما مات أحدهم استنصحه سلمان فيمن يتبعه من بعده. حتى إذا بلغته دعوة محمد اشتاق أن يراه، وأن يسمع منه، وأن يمتحن صدقه وإخلاصه. ولكن الشُّقّة بين الشام ومدينة الرسول بعيدة كل البعد، عسيرة كل العسر، فيمر به قوم من كلب ذاهبون إلى الحجاز، فيسألهم أن يحملوه معهم نظير بقرات له وغنيمات فيفعلون. حتى إذا كانوا في بعض الطريق غدروا به وباعوه رقيقًا ليهودي، فاتصل باليهود وعرف دينهم أيضًا، فإذا هو على علم بالوثنية والنصرانية واليهودية، وتنقلت به أيدي اليهود، حتى وقع في يد رجل من يهود بني قُرَيظة الذين يسكنون المدينة، فتم له ما أراد، واتصل بالنبي وامتحنه، فعرف صدقه فأسلم، وأعانه النبي ﷺ على فك رقه فتحرر.

حتى إذا كانت السنة الخامسة للهجرة — وقد تجمعت الأحزاب على رسول الله، من قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن، ومعهم يهود المدينة — رأى المسلمون أن يحتموا منهم بضرب الخندق على المدينة. ولم يكن حفر الخندق من عادة العرب في حروبهم، ولكنه من مكايد الفرس، فروى المؤرخون أن الذي أشار به سلمان الفارسي. ويخرج أميرًا على جيش من جيوش المسلمين لغزو فارس في عهد عمر، فيحاصرون حصنًا من حصون فارس، فيقول له المسلمون: ألا نقاتلهم يا أبا عبد الله؟ فيقول سلمان: دعوني حتى أدعوَهم كما سمعت رسول الله يدعوهم. فيقول لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، ألا ترون العرب تطيعني؟ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. ويكلمهم بالفارسية فيقولون: لا نؤمن ولا نعطي الجزية. فيقول الجيش: ألا نقاتلهم؟ فيقول: لا. فيدعوهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، فإذا أصروا قاتلهم ففتحوا الحصن. •••أظهر ما في صورة سلمان بعد ذلك شيئان: علمه وطريقة حياته. فأما علمه فهو مساير تمام المسايرة لما رووا من تاريخ حياته؛ فهو رجل تعمق في الوثنية حتى عرف أسرارها ووُكل بشعائرها، ثم عرف النصرانية وأخذ عن رهبانها، وانقطع لدراستها وتطبيقها، وكان يتحرى المشهورين من رجالها فيرحل إليهم ويتصل بهم، ثم وقع في يد اليهود فرأى منهم كيف يعبدون وسمع منهم ما يروون، ثم أسلم واتصل أكبر اتصال بمنبع الإسلام في أزهر أيامه. فكيف لا يكون بعدُ عالمًا؟ وناحية أخرى من العلم وهو ما أتيح له في حياته، ولم يُتَح لأكثر الصحابة في عهد النبوة، تلك تطوافه في أعظم الممالك الممدنة قبل اتصاله برسول الله، فقد نشأ في فارس ورأى مدنيتها وخبر أهلها وورث دماءها، ثم رحل إلى الشام ورأى مدنية الرومان وعرف أحوالها، وتنقّل — كما يقولون — بين الموصل ونصيبين وعمورية وغيرها. وكان إذ ذاك في سن ناضجة، فقد وصل إلى المدينة وأسلم وهو في نحو الخمسين من عمره. هذه الدراسات الدينية المختلفة، وهذه التجارب الكثيرة المختلفة، تجعل منه — من غير شك — في جزيرة العرب شخصًا ممتازًا بالعلم. لذلك روي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن سلمان. فقال: من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ ذاك امرؤ منا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر. أما نوع حياته فقد تبع طبيعة مزاجه الذي لازمه منذ نشأته، فاعتكف في الوثنية، وترهب في النصرانية، وتزهد في الإسلام. وهذه النزعة التي جعلته يحل مكانًا بارزًا بين رجال الصوفية. لقد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين أبي الدرداء، ولعل سبب الإخاء ما بينهما من تشابه في نزعة الزهد، ولكن أبا الدرداء غالى فرأى من الزهد أن يصوم نهاره ويقوم ليله، حتى تشكو منه امرأته، فيقول له سلمان: إن لأهلك عليك حقًّا، فصلِّ ونم، وصم وأفطر. فيبلغ ذلك النبي ﷺ، فيقر سلمان على قوله. أما سلمان فيتزوج ويظن أن العرب قد أهدروا العصبية، فيخطب بنت عمر، ناسيًا ولاءه وناسيًا أن العادات لا يمكن أن تُستأصل فجأة، فيأتي إليه قوم عمر يرجونه أن يعدل عن هذه الخطبة، فيعدل ويقول: والله ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه، ولكني قلت: رجل صالح عسى الله أن يُخرج مني ومنه نسمة صالحة، ثم يتزوج في كِنْدة، فإذا تزوج كره أن يفرش له، ويصيح في أهل زوجته: أتحولت الكعبة هنا أم هي حُمّى؟ ويسأله العرب على عادتهم في الصباح: كيف وجدت أهلك؟ فيردّ عليهم: ما بال أحدكم يسأل عن الشيء قد وارته الأبواب والحيطان؟ كان — إذًا — يتزوج ويعمل بما أوصى به أخاه أبا الدرداء من أن لبدنه حقًّا ولأهله حقًّا، ولكنه كأبي الدرداء لا يرى السعة في العيش، ولا الترف في الحياة، فكان شعاره دائمًا ما كان يكرره: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب». ويفتح على المسلمين ويخصص لكل منهم عطاء حسب الأسبقية في الإسلام، فيكون عطاء سلمان نحو أربعة آلاف درهم، فيخرج عنها ويعيش من عمل يده عيشة الكفاف. ويؤمّر على المدائن (كما يروي بعض المؤرخين)، فلا يحفل بإمارة ولا يحيطها بمظاهر الأبهة والعظمة والسلطان؛ بل يعيش كما كان، يخطب الناس في عباءة، ويخرج على جمار عريّ، وعليه قميص قصير، فيضحك من رآه ويشبهونه بلعبة، فيبلغه ذلك فيقول لمبّلغه: دعهم فإنما الخير والشر فيما بعد اليوم. ويكره الإمارة فيتركها ويقول: كرَّهني فيها حلاوة رضاعتها ومرارة فطامها.

ويسكن أبو الدرداء بيت المقدس ويتولى فيها القضاء، ويدعو أخاه سلمان إلى الأرض المقدسة، فيكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الإنسان عَمَلُه، وقد بلغني أنك جُعلت طبيبًا ١، فإن كنت تبرئ فنعمَّا لك، وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار. ويظل في المدائن حتى يموت بها سنة ٣٥هـ في آخر خلافة عثمان، ويزوره الأمير سعد بن مالك في مرض موته فيقول سلمان: أيها الأمير اذكر الله عند همك إذا هممت؛ وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت، قم عني. ويطلب من زوجته وهو على فراش موته أن تأتيه بصرة من مسك كان قد ادخرها، فيأمر بها أن تُدَاف وتجعل حول فراشه، وإذ ذاك يسلم روحه إلى خالقه. "

هذا الاقتباس من كتاب