فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباس

إن كان ما أقول حقًّا، وكان ما وصفت داء، وجب أن نضع له الدواء، والدواء في نظري أشياء.أهمها: ألا يكون في برنامج المدارس الثانوية دراسة للأدب الجاهلي وما يشبهه كأدب جرير والفرزدق والأخطل. وبعبارة أدق — أن يكون لنا نوعان من الدراسة: نوع للخاصة كقسم اللغة العربية في الجامعة والأزهر ودار العلوم، وهؤلاء يدرسون كل شيء في الأدب العربي قديمه وحديثه، جاهليه وإسلاميه ما استطاعوا؛ فهم يدرسون الأدب الجاهلي كما يدرس رجال الآثار الآثار القديمة، وكما يدرس رجال التاريخ التاريخ القديم. أما غير المتخصصين كطلبة المدارس الثانوية وأشباههم فحرام أن يضيعوا أوقاتهم في دراسة الأدب الجاهلي وهم لا يعلمون من الأدب شيئًا، وحرام أن نلوي عقولهم وأذواقهم بالمعلقات وأشباهها، وهم لم يتكون ذوقهم الأدبي بعد؛ فيجب أن يقطعوا مرحلة التعليم الثانوي بدراسة نماذج من القرآن الكريم ونماذج من الأدب الحديث ومختارات سهلة عذبة من الشعر العباسي وأمثاله، على شرط أن يكون هذا الأخير متفقًا والذوق الحديث، ملائمًا في موضوعاته وفنه لحياتنا الحالية؛ فان نحن قرأنا لهم شيئًا من الشعر الجاهلي فعلى شريطة أن يكون سهلًا عالميًّا لا صعبًا موضعيًّا؛ ولخير لهم ألف مرة أن يقرءوا أدب المعاصرين وشعر المعاصرين من أن يقرءوا للشنفرى وتأبط شرًّا وجرير والفرزدق؛ فإن هؤلاء المعاصرين يشعرون شعورهم، ويكتبون بلغتهم، ويتعرضون لموضوعات تهمهم، ويتذوقون بذوقهم، فإذا أكثر الطلبة من قراءة مؤلفاتهم استطاعوا أن يقطعوا مرحلة كبيرة في سبيل رقي لغتهم وتكوّن ذوقهم. وليس يفيدهم شيئًا أن يضيعوا سنة أو أكثر في دراسة مختارات من المعلقات، وسنة أخرى في دراسة مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، وليت الأمر اقتصر على عدم الفائدة، بل إن ضرره محقق في إفساد ذوقهم وضياع زمنهم.إن الأمم الأخرى الحية كإنجلترا وفرنسا تدرس لطلبتها شيئًا من الأدب القديم، ولكن قديمها ليس كقديمنا، فعمر الأدب الإنجليزي والفرنسي حديث لا يمعن في القدم إمعان الأدب الجاهلي، بل إن نحن وقفنا عند العصر العباسي كنا أقدم منهم. وشيء آخر، وهو أن أدب هذه الأمم — مهما قدم — وليد حضارة تشبه حضارتهم التي يعيشون فيها، ووليد بيئة اجتماعية هي أصل لبيئتهم الاجتماعية الحالية، فهم إذا درسوا هذا الأدب القديم تذوقوه كما يتذوقون حضارتهم، ووجدوا فيه موضوعات من جنس موضوعاتهم. أما الأدب الجاهلي فوليد بيئة مختلفة تمامًا عن بيئتنا الحالية، وتحتاج في فهمها إلى تخصص تام لمعرفة البداوة وشئونها وأحوالها حتى نستطيع أن ندرك أدبها، وهذا القدر لم يدركه المتخصصون فكيف بالطلبة؟

إني أسائل رجال الأدب بإخلاص: ماذا استفاد طلبة المدارس من دراسة الأدب الجاهلي في إنشائهم وفي معلوماتهم وفي تربية ذوقهم؟ لا شيء إلا أن يمثلوا دور الببغاء، يحفظون ما يلقى عليهم حتى إذا نقشوه على ورق الامتحان تخففوا منه سريعًا، ولو أنهم صرفوا هذا الزمن في دراسة الأدب الحديث لنما الأدب الحديث وأزهر، ورقى ذوق الطلبة وأثمر.

هذا الاقتباس من كتاب