فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباسات من كتاب فيض الخاطر - الجزء الثاني > اقتباس

لقد فتح المسلمون الأولون فارس والشام ومصر والأندلس وغيرها، فلم يفقدوها شخصيتها، ولا حرموها علمًا ولا ثقافة، ولا سلبوها حريتها؛ ومن أسلم فالعالم الإسلامي كله له، ومن لم يسلم ودفع الجزية فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وظلت هذه البلاد المفتوحة كلها تشترك في بناء المدنية الإسلامية على قدم المساواة؛ فعلماء فرس وعلماء شاميون وعلماء مصريون، وفنانون من كل صنف، وممسكون بزمام الحكم من كل قطر؛ ولكن لما فتح الغرب الشرق حرمه العلم إلا بحساب وفي حدود معينة، ومنعوا أهله حرية القول والتفكير وحمل السلاح إلا بمعيار ضيق، وأخصبوا أرضهم وأجدبوا عقولهم؛ لأن أرض الشرق للغرب وعقل الشرق على الغرب؟ فلو فتح المسلمون أوروبا — كما توقع الكاتب — لحفظوا لأوروبا شخصيتها وأوسعوا في علمها وثقافتها، وتركوا لها حريتها في أكثر شئونها، ولم يمنعوا نبوغ من استعد للنبوغ، ولا حجروا على عقل ولا تفكير، ولا كانوا يستغلون أرض أوروبا للشرق، إنما كانوا يستغلون الشرق والغرب للشرق والغرب. ودليلنا على ذلك أن جميع البلاد التي فتحها المسلمون الأولون ظلت زاهية مزدهرة بعد فتحهم بأحسن مما كانت قبل فتحهم، وأن الشرق كاد يموت بعد أن فتحه الغرب لولا لطف الله وبقية من مناعة الفتح الأول.وأهم فرق بين الفتحين أن مدنية الإسلام كانت تنظر إلى العالم الإسلامي كله كوحدة، خير الجزء خير الكل، وشر الجزء شر الكل، والمدنية الحديثة تنظر إلى العالم من خلال القومية؛ فخير تونس والجزائر ومراكش وسوريا لفرنسا لا لهذه البلاد، وخير طرابلس لإيطاليا لا لطرابلس، وخير الهند لإنجلترا لا للهند، وهكذا جريًا على الأسلوب الحديث في النزعة الوطنية؛ ولهذا نَعِمَ الشرق في حكم العرب، ولم ينعم الشرق في حكم أوروبا، ولا يمكن أن ينعم هؤلاء ولا هؤلاء إلا بإحلال الإنسانية محل الوطنية، ودون ذلك أهوال.

هذا الاقتباس من كتاب