اقتباسات من رواية دوائر الساعي

أكثر ما يؤلِم في الدنيا هي الكلمات التي وقفَتْ على حافة اللسان ثم انتهت صلاحيتُها وفات موعد خروجها.

أنت عبقري يا أبي … كبَّلتني بعُقَد لا حصر لها … زرعتَ بداخلي بذرة الاكتئاب … ثم جعلتني طبيبًا نفسيًّا … حقًّا أنت عبقري … جعلتَ ابنك مُكتئبًا يُريد الموت وطبيبًا يُعالِج المُكتئبِين في آنٍ واحد.

التصقت الأقنعة بوجه نوحٍ حتى صار نزعُها مُستحيلًا، أصبح مُدمنًا للادِّعاء، عاجزًا عن التفرقة بين الحلم والحقيقة، غارقًا في بِركة ملوثة بالكوابيس والهلاوس.

تموت فتُصبح محبوبًا،

‫ تصمتُ فتصير مسموعًا،

‫ تختفي فتكون مَرئيًّا،

‫ تتوقف عن الركض فتنعَم بالوصول.

‫ ما الفائدة إذا صارت أحلامي حقيقةً وأنا لستُ موجودًا لأُشاهدها تتحقَّق؟

تتحول العلاقات لذكرياتٍ مُشوشة، لسلامٍ مُتردد ، لصور بهتت الوانها و حُبست في البومات لا تنظر لها عين ، لأشياء فقدت لنعتها فمُلئت بها الإدراج و الصناديق .

لا يُوجَد في الدنيا ما هو أغرب من العلاقات، زجاجة ماء تُملأ قطرةً تلوَ الأخرى ثم تُقلَب وتُسكَب مرةً واحدةً تنتفِخ بسرعةٍ فائقة كبالونٍ ضخم ثم يَعبُر فوقها قطار الزمن فيُفرغ هواءها، يُفرقعها، يدهسها، يُحولها لقطعٍ صغيرة من مطاط يلتصق بالأحذية كعلكٍ فقد نكهته و فُرغت عصارته فطرد من الأفواه .

في بيت أبيها كانت تقرأ رواياتها دون أن يُحكَم عليها بالتقصير، تتمدَّد فوق الأريكة، تمسح بيدها الجرامافون الضخم، العجوز، اللامع، تُثبت الإبرة فوق الأسطوانة وتنتظر صوت أسمهان، لم تعُد تراه قديمًا، مُملًّا، ولكنه صار بالنسبة لها مُنظفًا لأتربة التفكير، و مبيدات لناموس القلق .

إن الإنسان في حياته يبحث عن التقدير بلا جدوى، وعندما يموت تُمطر الأفواه بكلماتِ الحُب بلا حساب، تصفى القلوب، تختفي العيوب، تُمحى الأخطاء، ولا يعود مصدرًا للإزعاج، للتهديد، أو للمنافسة.

اتَّضح أن هناك لافتةً لكل شخص يريد أن يتزوج … لافتة العريس تضم ماله، شقته، سيارته، ووظيفته … ولافتة العروسة تضم شكلَها، جِسمها، سنَّها، ومُؤهلها … تتآكل السنوات في صُنع لافتات جذابة… ولا يُنظَر للإنسان باحترام حتى تمتلئ لافتتُه

أنا مؤمِنة بأننا نُولَد بشغفٍ مُحدد مسبقًا، وأن مُهمتنا الشاقة في الحياة هي محاولة الوصول لهذا الشغف، والتعرف على أنفسنا الحقيقية

ينسخ الآباء أنفسهم في أولادهم، يُحولونهم لنسخٍ مكررة، غير أصلية، مُتشابهة، إعادة لفيلم قديم ذِيع وشُوهد وحُفظ … يتعاملون مع أولادهم وكأنهم يخوضون مغامرةً في لعبة

نظرت لنوح فوجدته صامتًا كتلفازٍ مغلق، جامدًا ككرسي مُثبت في الأرض، وهشًّا كريشةٍ معتادة على الاستسلام للهواء.

ينصحونني بالهدوء، بالنوم، بالصلاة، بالتغافل، بالركض، بالصمت، بالدعاء، وبالادِّعاء.

‫ أنهض، أنحني، أفتح حقيبتي، أُخرج قناع وجهٍ يبتسم، ألبسه، ألتفت لهم، يُصفقون حتى تتقطَّع أيديهم، يختفي صوتي وسط التصفيق، وتنهمر دموعي خلف القناع .

أعود لعوالم مثالية رسمتُها بإحكام، حيوات عديدة عشتُها بتلذُّذ، ولأبطال اندمجتُ في رواياتهم بعدما تأكدتُ أنني لست بطلًا في روايتي الشخصية.

لا أعرف إذا كانت الكتابة نعمةً رُزقتُ بها أم لعنةً أُصبتُ بها، الأمر أشبَهُ بولادة يستمرُّ فيها الطلْق لأشهُر، ولادة تبدأ بأفكارٍ تُضاجع رأس صاحبها، وتنتهي بأطفالٍ لا يُشعرونه بالرِّضا أبدًا وكأنها مَركب لا تصِل لمرساها ولا تغرق، تظل عائمةً بلا هدى ، تتناقلها الأمواج ، يتبدل ركابها ، و تصطدم بملايين الصخور دون أن تتحكم .

كنتُ من الخارج أبتسم للجميع، ومن الداخل كنت خائفةً، مهزوزةً، أتعامل مع الناس وكأنهم أسماك زينة تسبح في حوضٍ صغير، وأنا أُشاهدهم من وراء زجاج يحجِبُ عنِّي أصواتهم.

أنني كنتُ أبحث طوال الوقت عن فرصة بداية جديدة، عن صفحة بيضاء، ولكن الماضي ظلَّ ملتصقًا بأقدامي كعلقةٍ تمتص الدماء ولا تُنتزع. حملت عُقَد طفولتي فوق رأسي في كل مكان

ظننتُ أنني تجاوزت أحلامي المسروقة، واكتشفتُ أنني لم أتجاوز شيئًا، كنتُ أُخفي كل شيء وراء ستارة شفافة، ستارة تسمح لي برؤية ما أردت اخفاءه، وتستسلِم لأقل نسمةِ هواء فتطير

اشتغلت جسرًا يصل بين بلدتَين يكره سكانهما بعضهم بعضًا، حبلًا يربط بين شخصَين يفعلان كل شيءٍ لقطعِه، مِصباحًا ضوءُه خافت ورغم ذلك، يكتفي بنوره سكان البيت اشتغلتُ كل شيء يا مريم إلا أن أكون طفلةً، لم أُقبَل في هذه الوظيفة يومًا .

اعتدتُ أن أسمِّيها هكذا، ربما لأنني كنتُ أسكن أمام محطة القطار، وربما لأن أغلب سكان المدينة يتعاملون معها وكأنها مجرد محطة، يَحلم سكان القرى المجاورة بأن يصل قطارهم إليها، يحلم سكانها بأن يمضي قطارهم مبتعدًا عنها، وتجدين أهلها دائمًا يُخططون للرحيل لمدن أخرى تناسب أحجام حقائبهم و أحلامهم.