"رواية نيران توبقال:رحلة بين شهوة السلطة ولعنة السحر"
رواية «نيران توبقال» للكاتب القطري فيصل الأنصاري الصادرة عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر.
وعن سبب اختيار مراكش كمركز لأحداث روايته يقول فيصل الأنصاري:اختيار مراكش له أسباب عديدة.أولا كنت أتوق لأكتب عن المغرب العربي كما أن شخصية ابن أبي محلي نشأت في تلك البلاد، ولا أنكر جاذبية مراكش التي كانت تلقب بالمدينة الذهبية في ذلك الوقت.
وأضاف: أما عن التوقف عند تفاصيل مراكش وإعطائها مساحة كبيرة في الوصف..فقد حاولت مكافأة القارئ بإناخة الركائب عند تلك الملامح الجميلة والاستئناس بإطلاق الخطى وسط تلك الدروب القديمة.
وقد انقسمت الرواية التي جاءت في 263 صفحة إلى خمسة فصول هي: ربيع 1565، خريف 1610، صيف 1613، بدايات خريف 1613 ونهايات خريف 1613. ومنها انبنى كل فصل على مجموعة من الأجزاء، تمحور كل جزء منها على شخصية معينة أو حدث محدد. تأخذنا رواية "نيران توبقال" للكاتب فيصل الأنصاري في رحلة عبر أروقة مراكش السحرية وشوارعها المفعمة بالحياة، لنتوغل في عوالم تراثية وأسرار مكنونة لم تُفصح عنها سوى قصص الأجداد وأصوات العابرين في زوايا المدينة القديمة. بطل الرواية يجد نفسه في مواجهة سلسلة من الأحداث المتشابكة التي تشعل شرارة الأسئلة وتحرق الأجوبة.
يمزج الأنصاري في الرواية بين الواقعية السحرية والتصوف، لتصبح مراكش بأزقتها ورائحة بهاراتها وطبيعتها الساحرة كأنها شخصية قائمة بذاتها. يرسم الكاتب تفاصيل دقيقة تجعل القارئ يشعر بملمس أجواء المدينة ويشتم عبق تاريخها المترسب في جدران المباني، لينساب عبر أزمنة مختلفة تربط الماضي بالحاضر، في سرد يجعل الزمان والمكان خلفية نابضة للتطورات والأحداث.
يأتي بطل الرواية كشخصية تبحث عن الحقيقة والمعرفة، ولكنها تعيش صراعًا داخليًا يمزج بين الحيرة والشغف. يرسم الأنصاري أبعادًا نفسية تتجلى فيها مشاعر الانتماء والخوف من المجهول، ليصنع شخصيات مركبة ومثقلة بأعبائها التاريخية والشخصية. تشكل هذه الشخصيات مشهدًا يتداخل فيه البحث عن الهوية مع رغبة التخلص من قيود الماضي.
تعج الرواية بالرمزية، بدءًا من عنوانها "نيران توبقال" الذي يحمل دلالة عن التحديات التي يواجهها الإنسان واحتراقه الداخلي من أجل الوصول إلى النور. يستخدم الكاتب جبل توبقال كرمز للعقبات التي تعترض طريقنا وللقمم التي نسعى لبلوغها، كما أن النار تمثل التحول والاختبار المستمر، لينسج من خلالها قصة فكرية تمزج بين الصراع الروحي والبحث عن المعنى.
تميز أسلوب الأنصاري بلغة أدبية ساحرة، تجمع بين البساطة والجمال. يتفوق في رسم الصور الشعرية التي تنقل المشاعر بعذوبة، مما يضفي على الرواية طابعًا ساحرًا يعكس روح مراكش وحميمية أجوائها. قد يجد القارئ نفسه متعلقًا بجمل وأوصاف دقيقة تضفي جماليات لغوية على السرد وتخلق تفاعلًا فريدًا مع الأحداث.مع التأكيد وجود بعض الكلمات أو التراكيب التي تدخل في دائرة اللغة "المُعجميَّة"وربما يفسر ذلك انحياز الكاتب إلي قوة اللغة بدرجاتها العليا ولو علي حساب بعد تلك اللغة عن القارئ العربي الآن ،ومن جهة أخري ربما لأجواء الجبال والبيئة –الخشنة- في فضاء الرواية سبب يبرر اختيار الكاتب لها.
وفي مقام الأسلوب والتقنية فاختار الكاتب تقنية "الراوي العليم"في صدر الرواية ليضعنا داخل عالمها بحرق المشعوذ مراد علي جبال توبقال لتستمر أحداثها –كامتداد لرمز الشر- ويمثله خليفته داغر . ثم "تعدد الأصوات"ليضفي علي روايته ما يناسب موضوعها من روح ملحمية حيث تتحدث كل شخصية من موقع منطقها في الرواية ليدفع أحداثها في ضوء علاقتها بالشخصيات الأخري.
ليست مجرد رواية عادية، بل هي دعوة لاستكشاف الروح البشرية عبر حكاية ملهمة تروي نضالات الإنسان في مواجهة نفسه. يأخذنا فيصل الأنصاري إلى عالم خاص تلتقي فيه الأساطير مع الواقع، وتترابط فيه الحقائق مع الخيال، لتكون هذه الرواية جسرًا بين الحلم والحقيقة، يستحق القراءة والتأمل، وخاصة لكل محبٍ لسحر الأدب المغربي وجماليات مدينة مراكش العريقة .
ولعل اختيار الكاتب أن يقسم الرواية إلى فصول لها علاقة بالتدرج الزمني التاريخي يجعل القارئ ينغمس في الهالة الواقعية للحكاية رغم ما تمازج معها من غرائبية. بل إنه يقوده إلى درجة من اليقين تتشابك فيها أحكام المنطق والمعقول بما هو غريب وعجائبي مثل الإشارة إلى أرواح توبقال ومرآة نافذة المصير وتأثير ما هو ميتافيزيقي على ما هو محسوس ومرئي في صراع بين الفضيلة والرذيلة وقوى الخير والشر. وهو في كل ذلك يغذي هذا المسار العام بأحداث مستقاة من التاريخ في القرنين السادس عشر والسابع عشر من خلال ذكر أحوال البلدان والناس في حقبة الدولة العثمانية والغزو الاسباني لعدد من المناطق وتحركات الطوارق ومسار القوافل وما تمر عليه من مدن وأماكن تثري جميعها المخزون التراثي و التاريخي للحبكة السردية للرواية. وهذا يعود وفق رأيي الشخصي إلى تمكن الكاتب من التفاصيل الدقيقة سواء في وصف شخصياته أو الأمكنة أو سرد الأحداث أو توزع الحوارات بين الشخصيات.
وبذلك لا يخفى على القارئ وهو يتقدم في الرواية ما بذله الكاتب من جهد واضح في كتابة نصه خاصة مع اعتماده على تركيز دعائم الصورة المكتوبة، من خلال المعلومات التاريخية أو دقة وصف الأماكن، وذلك لاستكمال الإثارة بما يعزز تفاعل القارئ مع الرواية. ويبدو ذلك واضحا ليس فقط في وصف الصراع بين الشخصيات ولكن أيضا في دقة وصف الأمكنة مما ينم عن دراية كبيرة للكاتب فهو يصف مراكش بكل تفاصيلها من أبنيتها إلى ساحاتها إلى مساجدها إلى ثقافتها وأناسها.
وإن كانت الرواية تنبني في داخلها على ثنائية المشرق والمغرب ليس فقط بتوجه الشخصيات من وإلى الجهتين ولكن أيضا بإبراز خصوصية ثقافة كل جهة والتأكيد على كونها لا تتعارض مع الإقرار بخصوصية ضمن جدلية المركز والأطراف التي أسالت حبرا كثيرا وظلت تشكل نقطة الجدل بين المشرق والمغرب العربي . وكأننا بالأنصاري يريد أن يطبع روايته بروح قومية تتلمس جوهر الانتماء وملامح الهوية بما يحفز ذهن قارئه العربي سواء كان مشرقيا أو مغاربيًا على الاقتناع بأنَّ الاختلاف تميز وتكامل وأنّ الهوية واحدة حتى لو تعددت الخصائص وتباعدت الجغرافيا.
ومن الثنائيات التي عمل عليها الكاتب في الرواية نجد ثنائية الخير والشر التي تحرك الأحداث والشخصيات من خلال تصور علاقة بين قوى غيبية تمثل الأرواح الشريرة متجسدة في توق شخصيتي مراد وداغر إلى الدماء والتعطش للسلطة المطلقة وبين ما يجري على أرض الواقع وما يمثله تحرك بقية الشخصيات ومنها شخصية الشيخ أبو بكر وأمه حسيبة ومحمود وأسامة والشاب يلتان الذي يمثل الطوارق والصراع الطبقي بين الغني والفقير. أما شخصية ابن أبي محلى فهي تمثل نموذج للصراع بين الفضيلة والرذيلة وقوى الخير والشر وماهو باطن وماهو ظاهر. إذ سرعان ما انساق الشيخ وتحول من زاهد متصوف إلى حاكم مستبد عابث بانسياقه لرغبات داغر بعد أن أغراه بالسلطة والنفوذ.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ ابن أبي مَحَلِّي (967 - 1022 هـ / 1560 - 1613 م) هو أبو العباس أحمد بن عبد الله السجلماسي العباسي الفلالي، ثائر متصوف، ولد بسجلماسة، كان من قادة الجيش زمن المولى زيدان، ادَّعى أنه المهدي المنتظر فكثر أتباعه وتمرد ودخل العاصمة مراكش.
تنتهي الرواية بالقضاء على داغر رمز الشر وبطلان تأثير قوى السحر و الشعوذة كما تنتهي بتأكيد الكاتب على وحدة المصير من خلال مواجهة الشيخ أبي بكر مع بقية الشخصيات لداغر في إشارة إلى ضرورة تكاتف الجهود ووحدة المصير.
*أبرز الاقتباسات:-
1- "لم استسلم أحكمت صوت المشعوذ الرصين علي دواخلي وشددت سطوته علي يديَّ،أوصلت القدر إلي حيث أريد وبدأت بمسك الفراغ المستطيل بالمزيج الثمين،الدخان المتصاعد يلفح وجهي بحرارته العالية ويكتم أنفاسي ببخاره الخانق،غير أن قلبي يبتهج لذلك أيَّما ابتهاج،كيف لا والأمر يكاد يقطع آخر محطَّاته ليعبر من سذاجة الخيال إلي سطوة الخبائث،لم ابتسم تلك الابتسامة منذ سنين طويلة ،إخالني سأبتسم طويلًا...ها..هاها...هاها.. ". (ص40،41)
2-"لا أعلم حقيقة إن كان الفقر درجة من درجات الموت!!لكن نفسي قد ألمَّ بها أمر مشابه،لما أحسَّت به هناك في ضريح السعديين ،سحبتني خطواتي متعجلة إلي خارج تلك الأحياء البائسة،غريب كيف أن فؤادي لم يَستَهوِ المكوث طويلًا هنا أو هناك علي حدٍّ سواء!! ". (ص158،159)
3-"لقد كان متوقعًا ...صحيح أن ابن أبي محلي ليس ذاك المهووس بالبذخ وتضييع الأموال ،لكنَّ تسلط الدراويش من أتباعه وتعيينه لعديمي الخبرة والدراية في أمور الدولة قد جرَّ علي مراكش تراجعًا متعاقبًا في كل شؤونها حتي وصلت إلي ما وصلت إليه...هل تصدق أن ضرائب السوق قد ارتفعت أربعة أضعاف خلال سنتين ...و أن جملة من الإتاوات قد استُحدِثت من العدم ،حتي انحسرت الأموال عن أيدي الناس ،وأصبح التجار في انتظار مَدٍّ لن يأتي أبدًا".(176)
يبدو لي أن فيصل الأنصاري يختزن داخله رفضا وغضبا تجاه ما آل إليه المجتمع العربي، لذلك هو يسعى من خلال نصوصه السردية إلى تحريك المياه الراكدة أمام القارئ بحبكة تقوم غالبا على ثلاثية محكمَة تجمع التاريخ/التراث والواقع والغرائبية.
***************
فيصل محمد الأنصاري، روائي قطري وله رسائل اجتماعية عبر سلسلة توعوية بعنوان: (لست وحدك).
فاز بجائزة كتارا للرواية العربية 2021 لفئة رواية الفتيان عن روايته:
(عندما يعود الغيلان). ومن أعماله: رواية (كتاب الزمن)، ورواية (ماذا بعد؟).فاز بجائزة معرض الدوحة الدولي للكتاب لعام 2025، فئة "المؤلفين عن الإبداع" عن روايته التاريخية "نيران توبقال".
- #مسابقة_نيران_توبقال_على_أبجد
Abjjad | أبجد
Hamad Bin Khalifa University