أقفاص فارغة > مراجعات رواية أقفاص فارغة > مراجعة Aziz Refaat

أقفاص فارغة - فاطمة قنديل
تحميل الكتاب

أقفاص فارغة

تأليف (تأليف) 4.3
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

تبدأ الصفحات بمشهد تحكي فيه الكاتبة عن علبة الشوكولاتة المعدنية ذات الطراز الكلاسيكي إيّاها، والتي اعتادت أجيالنا في الألفية الثانية، وبالخصوص ثلثيها السابقين للأخير، على رؤيتها مختبئة في دولاب ما، فنختطفها ونفتحها في حذر على أمل أن نجد بها بعض قطع الشوكولاتة المستوردة اللذيذة، وتصدمنا قسوة الحقيقة حينما نواجه بكرات الخيوط وبعض مستلزمات الحياكة المنزلية "بتطلع لنا لسانها"، لكن علبة الكاتبة يختبىء بها أوراق عليها نصوص نثرية وشعرية منذ سنوات مراهقتها، وخطابات وصور..

وتتوالى المشاهد الأولى في استرسال ناعم عن حكاية العلبة المعدنية، بينما تتسرب حكايات أخرى صغيرة تتداعى في ذكريات كاتبتنا حتى نصل للمشهد الثاني عشر، واعتذر عن الإطالة ولكنني لا أجد مناصاً من نقل المشهد كما هو:

"فكرة وجود "قارىء" لهذه الأوراق ترعبني.. أكثر من الرعب، كأنه العجز الكامل عن أن أواصل، القارىء الذي طالما سعيت إليه، وكان يجلس على حافة مكتبي وأنا أكتب، أزيحه الآن بعنف، لا أريد أن يقرأ هذه الأوراق، لا أريد أن يتلصص على حياتي، لكنني أكذب أيضاً، لا يمكن أن يكتب أحد دون أحد، دون أن يشاركه شخص ما هذا الضجيج الساري في روحه، أقول لنفسي سيكون انتحاراً، وأقول لنفسي؛ ليس انتحاراً، أنا أريد أن أكشط قشرة جرح، كي يندمل في الهواء، أو لا يندمل، ويظّل ينّز دماً، وأرقبه، وأمسح الدم "بقطنة مبتلة". أصدقائي الأقرب إليّ يقولون لي: واصلي الكتابة، واليوم أخبرت زملاء لي في العمل يدّرسون النقد الأدبي، ويكتبون روايات تجارية:"أنا أكتب مذكراتي"، نظر لي أحدهم مستنكراً:"لا..لا..حاسبي". والآخر؛ صاحب الرواية التجارية، قال لي:"اكتبيها بضمير الغائب!" ظللت طوال اليوم أضحك من النصيحة الأخيرة، بضمير الغائب؟! أنا أريد أن "أحضر" كما لو أنني كنت غائبة دائما، الحضور الكامل هو كل ما أحلم به، اليقظة، التي لا تفوت ضوءاً واحداً في جوفي إلّا حدّقت فيه، حدقّت فيه حتّى يتلاشى، كعيون الميدوزا، لا أريد سوى أن أمسخ كل الذكريات إلى أصنام، ثم أكسرها، ثم أكنس التراب المتبقي منها، حتّى ولو كنت، أنا نفسي، صنماً من بين كل تلك الأصنام.

"ضمير الغائب ياراجل؟!"

هنا توقن أنك كقارىء أمام ماهو أعمق من سيرة ذاتية، وأكثر متعة وخيالاً من رواية، وأبعد فلسفة من مشاهد ونصوص نثرية/شعرية، بمفردات وتركيبات شاعرة مخضرمة ذات موهبة متفردة ولغة نظمية لا مثيل لها.

في رواية السيرة الذاتية الحائزة على جائزة نجيب محفوظ للأدب في العام ٢٠٢٢ انطلقت في رحلة معايشة مع أحداث وذكريات تأرجحت بين الألم، الفقد، العوز، الخذلان المتكرر، الأحلام التي بدت مستحيلة، العزيمة، والإصرار على الوقوف والسير مجدداً في طريق تحقيق الأهداف.

تنقلت مابين الدموع والضحكات، القرب والبعد، ترابط أبناء العائلة الواحدة وتنافرهم.. مشاعر كثيرة، متناقضة، جريئة أحياناً وشديدة الخجل في أحيانٍ أخرى أكثر.

في مشهد تكلمت فيه عن شكل صداقة جمعت والدتها بجارة لهم في السويس كانت راقصة في ماضي حياتها:

"كان بينهما"سر"، و"تواطؤ" وهذا يكفي، لصداقة عميقة".

وعلى الرغم من البساطة والتصالح مع النفس والذكريات، في سردية الأحداث، وحميمية الكشف عن مواقف ومشاعر وأخطاء إنسانية، علمونا أنها وصمات مشينة من العار هتك سترها والبوح بها، إلا أن #فاطمة_قنديل تعود في الثلث الأخير لتخط اعترافاً يقول:

"كل ماكتبته على هذه الأوراق، كان مؤلما، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذاكرة، وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى، فتتلاشى، كأنها تبخرت فور أن كتبتها.

وكشاعرة كان لابد وأن تأتي على ذكر دور الشعر في تفاصيل حياتها وأحداثها الجارية، لتقول في إحدى سطور كتابها:"كأن الشعر يمنح الرحلة معناها، أو كأنها وثقت (تقصد أمها) أن شيئاً سيبقى لي، وعنها، بعد رحيلها". وفي مشهد آخر تقول:"لماذا نكتب الشعر؟! لا لشيء إلاّ لكي نحتال على العقبات الصغيرة في حياتنا."

رغم أن عقبات حياتها كانت دائماً صعبة، قاسية، ومغرقة بالتحديات.

في مشاهد عديدة صاغت فيها شكل علاقتها بوالدتها في رحلة مرض الأخيرة، والتي امتدت لسنوات كانت الابنة تواجهها بمفردها في أغلب أوقاتها، تصف احساسها بمراقبة جسد أمها المسجى أمامها في غيبوبة تامة، بينما تنسحب منه أنفاس الحياة وتتناقص يوماً تلو آخر:"كأنني صرت عقارب ساعة، محض زمن، زمن خالص، يحاول أن يجد مكاناً، في اللازمن، يحاول أن يكون إطاراً، للاجدوى."

ثم تصف نقلة حياتها بعد هروبها الأخير من جميع أفراد عائلتها بعد أن امتلأت بجراح خذلانهم المتكرر حتى لم يعد في قلبها أو روحها مكاناً لطعنة جديدة:

"خمس عشرة سنة مرّت، كأن الحياة كلّها بدأت هنا، في هذا البيت، الذي أعيش فيه الآن، كأن الزمن هناك أيضاً، قد تهدم، وسقطت صخرته الأخيرة."

وأخيراً عن صديقتها الصدوق، بل من تعتبرها أختاً لها "رئيفة" عشرة أكثر من ٤٠ عاما، والتي تحتار في شرح أسبابها عن عدم كتابتها للكثير من تفاصيل وكواليس علاقتهم، بأن "رئيفة" تستحق كتاباً منفصلاً لا تظن أنها ستكتبه يوماً، بل لا تتمنى ذلك أساساً، لأنها عندما كتبت ذكرت كل من ماتوا سواء في الواقع أو "فيزيقياً"، كما يحلو لها التعبير، أو ماتوا بداخلها، وهي لا تستطيع أن تتخيل موت "رئيفة"، وتصيغ حيرتها قائلة:"كيف يمكن أن تفهمه (تقصد من يسكن قلبك باعتزاز) أنك تكتب عن هذا الجذر البعيد لتطيره أوراقاً في الهواء، كي لا يظّل يخادعك بأنه شجرة! تكتب عن هذا الجذر "المعطوب"، فقط، لتتخلص من "عفنه"، حتّى لا يصير إلى نهاية حياتك ممتزجاً بأنفاسك!"

هكذا، بكل شفافية تضع روحها وروح فلسفتها، في عباراتها السهلة الممتنعة، المطرزة بمغازل الأدب.

صفحات وسطور تتسلل إلى القلب لتمس شغافه بكل قطرة إحساس نزفت من قلم الكاتبة لتصيغ لنا إبداعاً كريماً أجاز لنا أن نتجول في مكامن ذكرياتها ودهاليز حياتها أو كما تصف بلسانها:

"تسألني رئيفة كثيراً هذه الأيام، عمّا أنجزته في هذا الكتاب، تعاتبني على كسلي! فأفضي لها بهواجسي:"يعني مش سهل الإنسان يعرّي حياته كدة!" لكن كلامي هذا لا يعجبها، تقول لي بحسم:"لأ.. لازم يعرفوا إنتِ عشتِ ازاي، وازاي بقيتِ كدة، ده ما كانش سهل" تدهشني في جرأتها، ولا أستطيع أن أخبرها أننّا نعيش، لكننّا "نجبن" حين نكتب، وننشر على الملأ ما عشناه."

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق