يستطيع المبدع أن يبتعد عن مرجعيته كمن يقوم بتحضير الأرواح ليستنطق فترات تشغله ويساءلها ويستعيد ما انطوى فيها ويفتح جراحا لأمراض يعاني منها عصره، وهكذا تفعل دعاء البادي في روايتها غربان لا تأكل الموتى فتخرج من جدول التصنيفات الدارجة في الكتابة النسوية وتعد وجبة سردية مغايرة للشائع حولها من شرانق الذاتية
غربان تأكل الحلم والعمر والحب، غربان تسلب حياة وتترك صاحبها حطاما متناثرا بين الإثم والألم والضياع، غربان في الرأس والوجدان تنقر طبقات التحضر فإذا بمن يظن أننا في عصر المدنية نفكر بميراث تقاليد رابضة تحت السطح البراق الواهي، غربان رمز سيميائي لتخلفنا وانحدارنا وسلوكنا الخالي من الجمال والمودة والتعقل، غربان لم تلتهم شخصية روائية أو جيلا تمثله هذه الشخصية أو طبقة تبتلع تلك الشخصية، إنما تحلق في أفق البشرية عابرة للأجيال والعصور، لكن دعاء هنا تتحدث عن عصر قريب، جيل يقترب الآن من التقاعد، ومعظمه كان خارج النص في هامش بعيد يتشابك فيه بؤساء العصر الذين لا يجيدون قراءة ابن خلدون وتوينبي، غربان ليست بحاجة إلى أكل الموتى لأن الأحياء لا يملكون وعيا بقيمة الحياة، سيرةشخصية منسية في عشوائيات التاريخ والجغرافيا والحضارة تسير من خسارة إلى خسارة تحمل شبح حبيبة هاجرة وترسخ في قيود الفقر والجهل، تلك الشخصيات التي تستطيع أن تستحضرها عند أسامة أنور عاكاشة في ليالي الحلمية مثل توفيق توفيق البدري أو زينهم زكريا بوجه آخر إنها نموذج عالم ترك قضايا التنوير وألقى أبناءه في الشوارع، إن أبناء الشوارع مصطلح يستطيع أن يبتلع الجميع، اختارت دعاء فجوة زمنية ومسافة مكانية وخريطة توزيع للرموز الدرامية مع كثافة ثقافية تشكيلية لكن الإحالة الواقعية صارخة تجذبك وتشد أذنك على رأي كامل الشناوي ملك الصحافة والشعرية فإذا بك ترى الشخصية الروائية منعكسة في مرايا كثيرة بوجوه تذكرك بأحداث الماضي المستمر أو المرويات التداولية المتوارية في ذاكرة مرهقة بمن خذلتهم سياقاتهم الاجتماعية ولم يجدوا موضعا لعاطفة مخلصة وعقلا نقيا يمهد لهم سقفا حضاريا بلا غربان ذاك الرمز البيئي المكرس للعداء والوحشة فقد انتشرت غربان النفوس كطيور هيتشكوك تنذر بالخطر في فضاء العولمة المتشابك بخيوطه الخانقة التي تحاصر العالم الثالث في مدقات التخلف

