تمت القراءة. ورقي،
عبقرية الصديق
الجزء الثاني من كتاب العبقريات
عباس محمود العقاد
النبي: متى توتر؟ قال: من أول الليل. سأله
وسأل عمر: متى توتر؟ قال: من آخر الليل.
فقال لأبي بكر: أخذتَ بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالعزم.
وصلاة الوتر كما لا يخفى تقضى من بعد العشاء إلى ما قبل الفجر، ويرى بعض الأئمة أنها فريضة، ويرى بعضهم أنها سنة يقتدى فيها بالنبي.
فأبو بكر يبادر إلى أدائها ويأخذ بالحيطة مخافة أن يفوته أوانها إذا أجَلها، وعمر الشديد على نفسه الواثق من عزيمته يعلم أنها لن تفوته وأنه لن يغلبه عليها غالب من النوم، فيؤجلها إلى ما قبل الفجر، وهو واثق من أدائها في أوانها.
لهذا قال النبي لأبي بكر: إنه أخذ بالحزم وهو الأحوط، وقال لعمر: إنه أخذ بالعزم وهو الأقوى، وعرف صاحبيه في هذه الفارقة الصغيرة كما عرفهما في كبار الأمور وصغارها.
وإن العقيدة التي تتسع لهذين الرجلين ولهدين الخلقين ولهدين العقلين، ثم يكون كلاهما إمامًا فيها، عظيمًا في اتباعها، لهي عقيدة تتسع لكثير.
في هذا الكتاب يتحدث عباس محمود العقاد عن الخليفة الأول أبو بكر الصديق ويرد فيه على اتهامات بعض المؤرخين للصديق بالمنهج العلمي وبدون أسلوب انفعالي وخصوصاً مسالة الخلافة للدولة الإسلامية. كما أن الكاتب يتحدث في هذا عن مفتاح شخصيته ومفتاح الشخصية حسب رأي الكاتب هو ذلك الشيء الصغير الذي عن طريقه نستطيع الدخول في فهم شخصية الرجل ومفتاح الصديق هو الاعجاب بالبطولة وهي التي دفعته ليكون أول من آمن برسالة النبي محمد لان اعجابه بالرسول هو الذي أدى إلى اعجابه بالرسالة خلاف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والذي أدى اعجابه بالرسالة إلى الاعجاب بالنبي. عبقرية الصديق هو أحد سلسلة العبقريات الإسلامية.
قارَن العقّاد بين شخصيّة عُمر بن الخطّاب وأبي بكرٍ الصِدّيق لأنهما من أقربِ صحابةِ النبيّ عليه السلام، أبي بكرٍ اللَّين الذي يمتزج بطبعه حِدة، وعُمر الشديد، الذي يمتزج مع شدّتهِ لين، فبالرغمِ من وجود هاته الصفتين في كِليهِما، يغلب أبي بكرٍ اللين في طبعه، ويغلب عُمر الشدة في طبعه، فيتكاملان، أخذتني هذه الفكرة إلى مصطلح الاختلاف، لِمَ لا نَأخذ هاته الشخصيّتين مِثالًا على تقبُّل الاختلاف بيننا، بل وجعل هذا الاختلاف أساسًا على البِناء والعمل واتِّخاذ القرارات التي تنهض بنا وترفعنا!
يقدم عبقرية الصدّيق صورة عن الجوانب النفسية لشخصية أبو بكر الصدّيق الخليفة الأول لرسول الله، الذي كان له الأثر الكبير في انتشار الإسلام وضبط أمور المسلمين بعد وفاة رسول الله. لا يقدم العقاد في كتابه سرداً تاريخياً بل ركز على مجموعة من الأحداث التي بدورها تحمل دلالة نفسية عن شخصية أبو بكر الصديق.
عُرف الخليفة الأول في التاريخ بأسماء كثيرة أشهرها أبو بكر والصدّيق ويليهما في الشهرة عتيق وعبد الله. هذه الأسماء عرف فيها في الجاهلية والإسلام على حد سواء، اشتهر بلقب الصديق في الجاهلية لأنه كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش.وعرف بالعتيق لجمال وجهه من العتاقة وهي الجودة في كل شيء.وسُمي في الإسلام بالصدّيق لأنه صدق النبي في حديث الإسراء وبالعتيق لأنه عليه السلام بشره بالعتق من النار.
اجتمعت عند أبو بكر جميع الوجهات التي تؤهله للخلافة فكان سنه مناسب وأول السباقين للإسلام وصحبة النبي في الغار كما أن معظم الصحابة دخلوا الدين على يده. وكانت أمارات استخلاف ظاهرة من طلائعها الأولى قبل مرض النبي عليه السلام بسنوات فكان أول أمير للحج بعث به النبي عليه السلام وهو في المدينة. إلى جانب اجتماع شروط الخلافة في شخصية أبو بكر، هناك دلالات قوية أثبتت رغبة رسول الله بخلافة أبو بكر. فهذه الدلائل مجتمعة تلغي بدورها كل اتهام بتدبير أمر هذه الخلافة الذي وجهه بعض الجهلاء ضد أبو بكر.
كان أبو بكر أبيض تخالطه صفرة، وسيماً، غزير الشعر، خفيف العارضين، ناتئ الجبهة، نحيفاً منحني القامة أميل إلى القصر. أما صفاته الخلقية فقد اتفقت الأقوال إنه كان أليفاً ودوداً، متواضع لا يتعال على أحد كان إذا سقط منه خطام ناقته و هو راكب نزل ليأخذه و لم يأمر أحد بمناولته إياه ومع هذه المودة وهذه اللفة كانت فيه حدة يغالبها ولا يستعصي عليه أن يكبح جماحها، وصف نفسه ووصفه بها أقرب الناس إليه، فقال في خطبة من أوائل خطبه بعد مبايعته (اعلموا أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني)
قيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان أول من أسلم واتفقت الأقوال على أنه أول من أسلم من الرجال وقال النبي عليه السلام: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر ما عكم عنه حين ذكرته له من اللحظة الأولى بعد إسلامه، وهب الإسلام كل ما يملك إنسان أن يهب من نفسه وآلة وبنيه، فأخذ أمه إلى النبي لتسلم على يديه وهي بين الحياة والموت. وجاءه بأبيه بعد فتح مكة ليسلم على يديه وقد جلله الشيب وابيضّ رأسه وحمل ماله كله، وهو يهاجر في صحبة النبي يؤثر به الدين على الآلة والبنين.
الصدّيق والدولة الإسلامية قدم الصدّيق للدولة الإسلامية الكثير أولها أن أسلم على يديه أكبر السادة وأكبر القادة في الإسلام مثل: عثمان بن عفان والزبير بن عوام وسعد بن أبي وقاص، واشترى نفرا من العبيد المرهقين وحررهم من أيدي المشركين وظلمهم. أما أهم ما قدمه بعد الخلافة فهي حروب الردة التي تعتبر مفخرة أبو بكر الصديق.
قال أبو رجاء البصري (دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل ويقول له:أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا قلت من المقبَّل ومن المقِّبل؟ قالوا هو عمر يقبل رأس أبي بكر في قتال أهل الردة إذا منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين)
إلى جانب حروب الردة، قام أبو بكر في خلافته بجمع القرآن الكريم، فلما مات من مات من حفاظ القرآن في حروب الردة أشار عمر على أبو بكر بجمع القرآن، فأحجم في بادئ الأمر ثم أنشرح صدره لما قاله عمر فانقضت خلافته والقرآن مجموع مفروغ من كتابته في المصاحف.
الصدّيق في بيته : عُرف بره بأبويه، وعُرف عطفه على أبنائه، وكادت الصداقة عنده أن تكون أخوة أو بنوة فكان يتحدث عن عمر يوماً فإذا هو يقول كأنما يتحدث إلى نفسه (والله إن عمر لأحب الناس إلي) لم يكن لزوجات أبي بكر ما يشتكينه منه غير الإقلال من النفقة والقصد في المعيشة، لكنه لم يكن مقلاً من المال ولا عاجزاً عن كسبه قبل الخلافة ولا بعدها، فقد أنفق في سبيل الإسلام أربعين ألف درهم ومازال ينفق من ماله في شراء الأطعمة وتوزيعها على الفقراء ولا سيما في الشتاء.
وكان يبغض السرف فيقول إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في يوم. أبو بكر الصديق الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال، والأمين في الإيمان، مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام فكان الثاني حقاً بعد النبي عليه السلام في كل شيء من قبول الإسلام إلى ولاية أمر الإسلام إلى تجديد دعوة الإسلام. وقيل إنه مات بالحمى وأغلب الظن أنها حمى المستنقعات التي أصيب بها بعد الهجرة إلى المدينة ثم عاودته في أوانها مرة أخرى وهو شيخ ضعيف، وانتهت حياةٌ بلغت نهايتها في حيز الجسد وفي حيز المجد وفي حيز التاريخ