مقال عن المنهج: لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم > مراجعات كتاب مقال عن المنهج: لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم > مراجعة نور الهدى سعودي

هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

كتاب مقال في المنهج ليس مجرد نص فلسفي تأسيسي في تاريخ الفكر الغربي، بل هو شهادة وجودية عن قلق العقل البشري أمام الفوضى، وعن رغبة الإنسان في تأسيس يقين وسط عالم متشظٍّ. حين كتبه رينيه ديكارت سنة 1637، لم يكن يعرض فقط قواعد منهجه في التفكير، بل كان يكتب بيانًا شخصيًا للحداثة، يعلن فيه أن العقل الفردي قادر على أن يكون نقطة بداية للمعرفة كلّها.

الكتاب يبدأ كنوع من السيرة الذاتية الفكرية: ديكارت يحدّثنا عن مساره الدراسي، عن خيبته من الفلسفة المدرسية، وعن عدم رضاه عن علوم عصره، ثم يصف رحلاته وملاحظاته عن الشعوب. لكنه لا يفعل ذلك بوصفه حكاية شخصية، بل باعتباره خلفية ضرورية لولادة مشروع منهجي جديد. هنا تكمن فرادة النص: إنه فلسفة في صورة اعتراف، عقل في هيئة سيرة، تفكير يتخذ من الذات نقطة انطلاق.

المنهج الذي يقترحه ديكارت يتأسس على أربع قواعد شهيرة: ألا نقبل شيئًا على أنه صحيح إلا إذا كان بديهيًا وواضحًا، أن نقسّم المشكلات إلى أجزاء، أن نرتب الأفكار من الأبسط إلى الأعقد، وأن نقوم بمراجعة شاملة حتى لا يفوتنا شيء. لكن هذه القواعد ليست تعليمات تقنية جافة، بل هي ثمرة تجربة وجودية عميقة: تجربة الشك. الشك عند ديكارت ليس مرضًا أو ارتيابًا عابرًا، بل هو شرط للوصول إلى الحقيقة، أداة لتطهير العقل من الأوهام والتقاليد. ومن هنا يولد ذلك اليقين الأشهر: أنا أفكر، إذن أنا موجود.

الجميل أن النص لا ينحصر في هذه القواعد، بل يمتد ليعكس روح عصر كامل: صعود الرياضيات كعلم للوضوح، تطور الفيزياء الحديثة، انفتاح أوروبا على آفاق جديدة. ديكارت يكتب كأنه يعلن بداية زمن جديد، زمن العقلانية الصارمة. ومع ذلك، فإن في نبرة الكتاب بُعدًا إنسانيًا حميميًا: ليس مجرد مشروع علمي، بل محاولة فرد يبحث عن مخرج من قلقه الشخصي.

من الناحية الأدبية، يحمل مقال في المنهج نَفَسًا خاصًا. ديكارت لم يكتب باللاتينية كما كان سائدًا في الفلسفة، بل بالفرنسية، موجّهًا نصّه "إلى الجمهور" لا إلى النخبة وحدها. لغته بسيطة لكنها محمّلة بكثافة فكرية، أسلوبه أقرب إلى حديث صادق منه إلى محاضرة جافة. وكأننا أمام رجل يبوح بأسرار عقله، يشارك القارئ في رحلة بحثه. هذه النبرة الاعترافية تجعل النص قريبًا من القارئ، وفي الوقت ذاته تكشف عن تواضع فلسفي لا يخلو من ثقة مطلقة بالعقل.

ما يجعل الكتاب مؤثرًا حتى اليوم هو أنه لا يقدّم الحقيقة كشيء جاهز، بل كمسار: هو دعوة لأن يفكر كل واحد بنفسه، وأن يتعلم كيف يبني يقينه خطوة خطوة. وهنا تكمن قيمته الفلسفية الكبرى: لقد نقل مركز الثقل من السلطة الخارجية (الدين، التقاليد، الفلاسفة السابقين) إلى العقل الفردي. فجأة صار الإنسان الحديث هو مقياس الحقيقة.

لكن لا يجب أن نفهم ديكارت كعقلانية صلبة فقط. في ثنايا الكتاب يظهر وعيه بحدود العقل، ورغبته في التوفيق بين العلم والإيمان. فهو يضع أساسًا للفيزياء والرياضيات، لكنه لا ينفي وجود الله بل يجعله الضامن النهائي لليقين. هذه المفارقة تكشف عن التوتر في فكر ديكارت: بين طموح تأسيس المعرفة على العقل وحده، وبين حاجة ذاك العقل إلى سند ميتافيزيقي.

قراءة مقال في المنهج اليوم ليست مجرد عودة إلى نص تاريخي، بل مواجهة مع سؤالنا المعاصر: كيف يمكن أن نميّز الحقيقة في زمن التضليل؟ كيف نرتب أفكارنا وسط ضجيج المعلومات؟ كيف نشك من دون أن نسقط في العدمية؟ المنهج الديكارتي يظل ملهمًا لأنه يعيدنا إلى ضرورة البداية من الذات، إلى ضرورة التدرّب على وضوح الفكر.

بهذا المعنى، النص ليس ملكًا للفلاسفة وحدهم، بل يمكن أن يكون رفيقًا لكل قارئ يريد أن يعيش فكره بصرامة وأمانة. ديكارت في مقال في المنهج لا يطلب منا أن نتبعه، بل أن نتبع عقولنا، أن نصنع نحن أيضًا "مقالاتنا في المنهج". إنه نص لا يُقرأ لينتهي، بل يُقرأ ليبدأ القارئ معه مشروعه الخاص.

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق