((أنني، كقارئ، أدعي الحق في الإيمان بمعنى القصة خارج تفاصيل السردية، من دون التأكيد على وجود عرابة خيالية أو ذئب شرير، أن سندريلا وذات الرداء الأحمر لا داعي لأن يكونا شخصين حقيقيين لكي أؤمن بحقائقها))
ألبرتو مانغويل
يأخذنا الكاتب أدهم العبودي في رحلة شيقة وغرائبية، وتقدم رؤية مختلفة عن العالم، وتصنع أسطورة شيقة.
فكما تقول كارين ارمسترونج" إن الأسطورة هي التظاهر بالاعتقاد، إنها لعبة تتعالى على عالمنا المتشظي المأساوي، وتساعدنا على التقاط إمكانات جديدة حول سؤال: ماذا لو؟
وأعتقد أن الكاتب كان يتبع هذا الأمر وبدأ في اختلاق أسطورة مغايرة للواقع، وبدأنا بماذا لو كان الإنسان يُنشأ من رحم الطين؟ ولأن البداية مختلفة، فسنرى على مدار الرواية أحداثًا مختلفة عما ألفناه عن واقعنا، ولكن ستلامس عند كل قارئ وترًا معينًا في أفكاره ومعتقداته.
عكس المؤلف حياة الإنسان، فبدلًا من أن نُدفن في الحفرة أصبحنا نخرج منها، وأصبحت هي من تمنحنا الحياة، وكأن فعل الولادة والموت يتشابهان، فكل موت هو بداية لشيء آخر. ففي الرواية لقد جئنا من باطن الأرض وسنعود إلى باطن الأرض، وكل مرحلة هي رحلة قائمة بذاتها.
إيراث المنفرد بالمعجزة:
في الرواية نرى إيراث المختلف عن أقرانه، ما يمثل الإنسان العاقل الوحيد (الهومو سابيان) كما هو معروف حاليًا، فهو الذي يمشي منتصبًا بينما أقرانه يمشون مقوسين. ولأن الاختلاف ليس فقط في الهيئة ولكن أيضًا في الفكر، كان هو المختار لكي يكون رفيق (أولا)، وهو الشخص الذي يستطيع أن يتآلف مع ما يعجز الجميع عن فهمه بين قومه، وهو الذي لديه جرأة التجربة وأن ينحي غروره جانبًا ليتعلم من كائن آخر يختلف عنه ويجعله المرشد والمعلم. فهو على الرغم من أنه سيد قومه لم يجد حرجًا في أن يأخذ العلم والمعرفة من أولا، وأن يبحث عما يكمل نقصه ويسد الفراغ في روحه، ولذلك استحق اسمه بعد ترجمة الإشارات إلى كلمات: إيراث…من يحمل الارث والعب
أولا المساوية للحياة
في كتاب البطلة بألف وجه ووجه ذكرت ماريا تاتار" في أغلب الأساطير المروية نجد المرأة جاءت تابعة وليس محركًا، فكما يقال إن العالم القديم نادرًا ما ترك النساء ينطقن بآرائهن، لا في الحياة الحقيقية ولا في الأسطورة ولا في القصة والتاريخ"، لذا كان طرح أ\ أدهم مميزًا في إبراز دور المرأة كشريكة، وكمانح للغة وكمعلمة، وجعلها هي التي أهدتهم اللغة، وجعلهم أناسًا عاقلين مثل إيراث. فلقد منحتهم بركتها عدة مرات، فكانت مخلصهم من عبودية الجسد المنحني وكذلك عبودية الفكر، فكانت بركاتها تحف العالم منذ خلقها حتى فنائها. قد يرى البعض، بسبب أن أولا لها دور كبير في الرواية، أن الرواية قد تكون منحازة، ولكن أنا أرى أن الرواية كانت تسعى إلى التكامل وإرساء الفكرة التي قامت عليها الحضارة المصرية القديمة، فعندما كان العالم غارقًا في الظلام كانت المرأة المصرية ملكة وقائدة وإلهة. وأعتقد أن دور أولا يعد طبيعيًا نظرًا للإرث الذي نحمله كأحفاد لحضارة عريقة أعطت المرأة قدسيتها وفهمت دورها.
في البدء كانت الكلمة:
أهدت أولا اللغة إلى العالم، فاستُبغ بالسحر. فبتعلم الإنسان اللغة يتغير العالم درجة، ويكتسب الإنسان حسًا مختلفًا، وينتقل من وحشة الصمت إلى أنس الكلام.
ففي كثير من الحضارات تعتبر الكلمة المنطوقة فعل سحر، ويعتبر النطق بالكلمة موكلًا بالخلق. فسواء كانت مرويات دينية أو أسطورية، اتفق الجميع على تقديس الكلمة.
بعد اللغة يأتي الفن كمتمم لأسس الحضارة، الفن الذي تمثل في سعي إيراكان للرسم، وعلى الرغم من أنه يعلم أنه إن اقترب سيحترق، فقد فضّل الاحتراق بالفن على العيش بدونه، فكانت رسوماته طريقًا لباقي قومه وبداية معرفة الكتابة وتخليد الكلمة.
وعندما كنت أفكر في إيراكان ورسوماته الغرائبية التي أثارت حيرة قومه، تذكرت كهوف تاسيلي التي لا زالت تثير حيرتنا نحن في العصر الحديث، كيف لأقوام كانوا بدائيين أن يعرفوا هذه الرسومات البديعة؟ وأفكر: أليس الرسم هو أيضًا نقوش الفراعنة التي صنعت الكتابة الهيروغليفية التي خلدت الحضارة الفرعونية على جدران المعابد؟
فإن كانت اللغة هي فعل خلق، فإن الرسم والفن هو فعل إلهام واحتفاظ. ورغم المجازفة اختار إيراكان أن يختار الخلود عن طريق الفن حتى لو عنى ذلك فناؤه هو…
أن تفقد لتعبر:
مر على إيراث العديد من مراحل الفقد، فقد نفاه قومه من أجل أولا، فافتقد الرفقة. ولكن أعتقد أن الخسارة التي أشعرته بالحزن والأسى هي فقدان الكائن الذي كان يستكشف معه الصحراء، ويلتمس معه مغامرات وحكايات. في رأسي أطلقت على الكائن اسم "البراق" لأنه لا يوجد مثله شيء، ولأنه كان يأخذه إلى أماكن بعيدة، وعن طريقه كان يتلمس المعارف بنفسه. وعندما فقده، سيطر عليه الحزن، وإن كنت أشعر أن هذا الفقد مقصود. هناك مروية قرأتها من فترة ولا أعرف مصدرها، أن هناك واليًا كان لديه حصان يشاركه الرحلات، ولكن فقد الحصان فانتكس الوالي، وبعد ذلك فهم أن الفقد مهم ليستكشف بنفسه، وأن الحصان كان رفيقًا لفترة، والآن عليه أن يجتاز ويتعلم بمفرده. كما أبرز هذا الجزء أثر أولا في حياة إيراث، إذ جعلته يركز على وجود أشياء أخرى تستحق الحياة بدل الاستغراق في الحزن، فمرة بعد مرة كانت أولا تهدي إيراث الطريق، تدفعه إلى الحياة.
أولا والأبناء السبعة المقدسون
بعد ما منحت أولا العديد من الهدايا للعالم ، قررت أن تقدم لهم هدية من نوع آخر، إنهم أبناؤها، مفاتيح حياة العالم، والذي مثل كل منهم عنصرًا يساعد على توازن الكون. لذلك، في نهاية الأمر لم يجتمعوا أبدًا، لأن على الكون دائمًا أن يتجدد ويسير في البحث عن التوازن.
أما اختيار عدد الأبناء كسبعة، فهو رقم سحري فريد وله ثقل في الأساطير والمرويات. ولكن في اعتقادي أن السر أيضًا يكمن في رقم تسعة المستتر، لأنني شعرت أن هناك تماثلًا ما بين أولا وإيراث وأبنائهما، وما بين التاسوع المقدس الفرعوني. لا أعرف إن كان هذا مقصد الكاتب أم لا، ولكني رأيت أنهم يعكسون بداية العالم.
وأيضًا شعرت بالتماثل ما بين الأبناء السبعة والسبع عقارب الحاميين لإيزيس، فالأبناء هم حماة الكون في كون أولا وإيراث، كما كانت تحمي العقارب إيزيس من الشرور.
الرمزية في الرواية
أعتقد أن الرمزية في رواية "إيراث" تعمل كالمرآة، فكل شخص يقرأ الرواية ويسقط عليها معارفه وأفكاره ، ويكون بذلك أسطورته الخاصة. وأعتقد أن هذا هو حال الأساطير والمرويات في العالم، فكل شخص يرى حدثًا ويفسره، ومن بعد ذلك ينتقل التفسير ويصبح أسطورة. لذا، فقد يرى البعض أن كثيرًا من الأشياء في الرواية تشير إلى أنبياء أو تفسيرات دينية، وقد يرى البعض أنها تشير إلى أساطير أو تفسيرات ميثولوجية، وقد يرى شخص آخر أنها تميل إلى تفسيرات علمية. ويتسع المجال بحجم الخيال لدى القارئ.
وإن كنت أميل أنا إلى أن الكاتب يميل إلى الأساطير المصرية القديمة والتاريخ الفرعوني والتأويلات الصوفية في مزيج فريد يجتمع في الرواية. فإذا ابتعدنا عن رمزية الأسماء الواضحة، واتجهنا إلى الرموز كعين الحكمة أو مفتاح الحياة، نجد أنها قد تحمل معاني أثقل بكثير من كونها عنصرًا داخل الرواية، نرى أهمية هذه الرموز في الأدبيات الصوفية أو الأساطير المصرية القديمة.
أيضًا، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، قد نرى تفسير الميزان الذي يحتل أهمية كبيرة في الرواية منذ بدايتها، وكيف هو انعكاس لميزان ماعت أو لفكرة الميزان في الأدبيات الصوفية. وأعتقد هنا يكمن موطن قوة الرواية، إذ تمنح الخيال فرصة للتحليق وخلق تأويلات عدة من نص واحد.
فضائل الأبطال في اختيار العزلة وألم التضحية
أبرز الكاتب دور العديد من المفاهيم داخل الأسطورة، وجاءت اختياراته لصفات معينة، والتي تعكس دائمًا المعضلة التي يخوضها الأبطال ما بين أن يختار القوة الغاشمة أو التعقل الحكيم، ما بين أن يضحي بنفسه لإنقاذ عالم قد لا يأبه به، أو أن يعيش لنفسه ويحترق العالم، وما بين أن يستغرق في الملذات أو ينعزل من أجل أن يجرد روحه من غرورها ويؤدبها.
لعبت الحكمة عمومًا دورًا كبيرًا في الرواية، فنرى شجرة الحكمة وعين الحكمة، وكيف لا والحكمة هي ما قد ينجينا، وهي الدعوة التي ندعو بها، وكما قال الله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا}. الحكمة هي نبراس الطريق المستقيم، وكما نبتهل في الدعاء: أن يعطينا الله الحكمة في الاختيار وفي القول والعمل. وحتى في الأساطير المصرية القديمة نرى أن للحكمة إلهًا وهو تحوت.
كما تجلت أهمية التضحية في اختيارات إيراث وأولا، وكذلك أبناؤهم الذين اختاروا دائمًا التضحية من أجل انسجام العالم، وحتى لو ظنوا أن الأمر قد يعني فنائهم، فكانوا يرون أن الحفاظ على العالم أهم من بقائهم، وأن هزيمة الشر والحفاظ على التوازن واجبة. وحتى عندما كان إيراث في خلاف مع قومه، اختار مساندتهم، وحتى عندما كان الأبناء في عالم قد يظنون أنه دخيل، اختاروا نصرة أشخاص ضعفاء على الخلود. وفي كل مرة أصلًا لا يوجد ضامن للنصر بسبب قوة العدو، لذا فقد كانت التضحية قيمة، وهذه هي سمة الأبطال.
الزمان والمكان: دوائر العود الأبدي
عندما قرأت مقابلة المؤلف عن الرواية وتحدث عن الزمن، وأنه ليس خطيًا وإنما دائري، فكرت أن الزمن في الرواية يليق بأسطورة، فكلما انتهينا ابتدأنا، وجاءت خاتمة الرواية أيضًا لتؤكد هذا.
أما المكان، فهو لا يمثل فقط أي مكان في العالم، بل أيضًا أماكن لا نعرفها، أماكن متخيلة، ولكن نشعر بإحساسنا أنها قد تكون موجودة. وعندما ترتقي الأمور إلى عالم البرزخ، نشعر بالتواصل مع هذا العالم.
وكأننا نرى من منظور عين الطائر في كل من الزمان والمكان، ونكون عند التقائهما أمام رؤية بانورامية عن الأحداث، وكما يقول ألان ليتمان: (في العالم الذي يكون فيه الزمن دائريًا ستتكرر جميع الأشياء في المستقبل، فإن جميع الأشياء التي تحدث الآن قد حدثت مليون مرة من قبل، قلة ما من البشر في كل بلدة تدرك بغموض في أحلامها أن كل شيء حدث في الماضي في دورة الزمن السابقة
اللغة وسحر المخطوطة
لا أنكر أنني في البداية استصعبت اللغة، وخاصة أنها أبطأتني أثناء القراءة، ولكن فكرت: إن كانت الرواية مخطوطة، ألم أكن سأبذل مجهودًا في قراءتها؟ ولقد سهل علي هذا التفكير الأمر، فقد كنت أبحث عن معاني الكلمات التي لا أعرفها. ولكن ظلت مشكلة التشكيل الملاصق تمامًا للكلمات، والتي جعلتني أفقد تركيزي في عدة مواضع وأخلط بين كلمة وأخرى أيضًا.
لقد أحببت بناء الرواية، لكن هناك أحداث كنت أطمح في تفسيرات لها، مثل أن الرجال البدائيين الذين لم يكونوا يهتمون سوى بتحصيل قوت يومهم، اهتموا كثيرًا بالميزان وكان إيراث في ذلك الوقت حامل الميزان. لقد تعجبت من وجود هذه المعرفة لديهم كأشخاص بدائيين، وكنت أرى أن سير الأحداث من الممكن أن يكونوا اهتموا به بعد أن شربوا من لحاء الشجرة وأصبح لديهم القدرة على التمييز ومعرفة أهميته الرمزية أو أهمية المعادن كثروة.
كما أنني كنت أريد أن أرى أن "الرائي" تم عقابه بشكل ما على ما فعله بـ"أيلا" وبأخيه، كنت أريد عقابًا أكثر من شعوره بالمعاناة وتأنيب الضمير، وأعتقد أنه كان عليه أن يكفر عن الأمر بشكل أكثر جدية. لم أسامحه على الرغم من أن الجميع مضى قدمًا وكان الأمر كأنه لم يكن.
أثمة معنى للخلود إن كان العالم مكسورًا؟
ظهرت أهمية الخلود والبقاء في العالم بشكل كبير داخل الرواية، فدائمًا كانت رغبة الآلهة أو الكائنات القديمة في العودة مرة أخرى للعالم، حتى لو تدمر العالم أو تغيرت نواميسه وفقد معناه. ونرى هنا التباين ما بين رغبة الكيانات القديمة في البقاء، وترفع روح السلام عن ذلك إن كان يعني فناء العالم.
وقد عبرت الرواية عن الفكرة التي هي مركزية بالنسبة للبشر في عدة ثقافات: ألم يعرض الشيطان على آدم الخلود إذا أكل من الشجرة؟ وكذلك في الأساطير القديمة نجد أن الفراعنة يؤمنون بخلود الروح إذا كانت صالحة، وأن الموت هو مجرد رحلة إلى باقي الحياة. وفي نهاية الأمر تتركنا الرواية مع تساؤل هل اذا منحنا الأختيار ما بين الخلود او بقاء العالم ماذا سنختار سؤال قد يبدو سهل علي المستوي النظري ولكن تكمن الصعوبة دائما عند المواجهة .
، هذه رواية ممتعة لمن يحب الإبحار في عوالم الخيال ورؤية العالم من منظور مغاير، وأختتم باقتباس لكارين ارمسترونج: (الرواية مثل الأسطورة، تعلمنا أن نرى العالم بطريقة مختلفة، ترينا كيف ننظر في قلوبنا، وكيف نرى عالمنا بمنظور يذهب إلى ما وراء اهتماماتنا الخاصة، لذا أصبح بإمكان الفنانين أن يحملوا إلى عالمنا رؤئ جديدة وحية).
#مسابقات_مكتبة_وهبان
##مسابقة_ريفيوهات_إيراث
#أدهم_العبودي