مشرحة بغداد: سردية الألم و الفقد:
……………………
نزار عدنان جواد
“You know the day destroys the night
Night divides the day
Tried to run, tried to hide
Break on through to the other side”
The Doors - Break On Through To The Other Side
تُعد رواية "مشرحة بغداد" للروائي والشاعر والمترجم العراقي برهان الشاوي، التي صدرت عام 2012، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، واحدة من الأعمال الأدبية التي مثّلت بعمق الحالة النفسية التي عاشها المجتمع العراقي أثناء فترة الحرب الطائفية و الانفلات الأمني بعد ٢٠٠٣. يُعتبر الشاوي، المقيم في ألمانيا، من الأسماء البارزة في المشهد الروائي العراقي الحديث، حيث يمتلك رصيداً غنياً من الأعمال الأدبية التي تتراوح بين الشعر و الرواية و الفكر.
في هذه الرواية، يأخذنا الشاوي في رحلة عبر عوالم مظلمة من خلال شخصية بطل الرواية، آدم الحارس، الشاب ذو الاثنين و عشرين عاما، الذي يعيش في عزلة مروعة، حيث يصفه الكاتب بأنه "مثل ورقة مهملة، سقطت من شجرةٍ مجهولة، بلا جذور". يسكن آدم في غرفة في الطابق تحت الأرضي من المشرحة، هذا المكان الرمزي الذي يصبح بحد ذاته شخصية إضافية تساهم في صياغة أحداث الرواية.
تبدأ الرواية بمشهد سوداوي يهيئ القارئ لما سيأت، حيث يصف المشرحة و ما يحيط بها:
" الساعة الان قد تجاوزت منتصف الليل. مشرحة بغداد قد أوصدت أبوابها. ليس هناك سوى الطبيب المناوب و مساعده و الحارس الخفير. المنطقة التي فيها المشرحة، و الشوارع المؤدية إليها، و الأزقة التي تحيطها، بل و بغداد كلها غارقة في الظلام". تتوالى الأحداث حينما يبدأ آدم الحارس بسماع أصوات غريبة تنبعث من غرفة تشريح الجثث، ليكتشف انها أصوات الجثث نفسها حيث تروي كل منها قصتها و كيف انطفأت بها رحلة الحياة لتنتهي في آخر المطاف إلى مشرحة بغداد.
تجاوزت الرواية حدود السرد التقليدي لتدخل في أبعاد أدب الديستوبيا، حيث أعتمد الكاتب على عددٍ من الدلالات الرمزية التي أَثْرَتْ بُنيَة السرد. من أبرز هذه الدلالات، كان توظيف "المكان الرمزي"، المشرحة، التي تعتبر بؤرة الحركة و ساحة الصراع، حيث تعكس ممراتها المظلمة و المتقاطعة ازقةُ بغداد و شوارعها، مما أضفى بعدا واقعياً عزّز من تأثير الأحداث. علاوة على ذلك، اتجه الكاتب إلى تصوير الجسد، ليس كعنصر جمالي، بل ككيان عبثي هش، يُضحى به في عالم يغمره القسوة والعنف. في هذا السياق، أصبح الجسد بمثابة "كتل لحم بشعة، وجيف تمشي، وأحشاء مليئة بالبراز والفضلات النتنة"، لتعكس فظاعة الواقع الذي تعيش فيه الشخصيات.
كما نجحت الرواية في توظيف بعض السيميائيات التي ساعدت في فهم المعاني المتعددة التي يحملها النص. فعلى سبيل المثال، شباك غرفة التشريح، الذي يمثل منفذ خروج الجثث ليلاً، يصبح الفضاء الذي يربط بين المشرحة، كرمز للداخل المقيّد، والواقع المرير بالخارج. كذلك، يمكن أن يُفهم انتقال آدم الحارس المتكرر بين الطابق السفلي والطوابق العليا كإشارة إلى الأسطورة السومرية، حيث يُجسد هبوط الإلهة إينانا إلى العالم السفلي، كرمزٍ للصراع بين الحياة والموت، والعبثية التي تكتنف الوجود. هذه العناصر جميعها ساهمت في إثراء النص و شَد القارئ لسير الأحداث.
مع ذلك برأيي، عانت الرواية من إشكاليات جوهرية أثّرت سلبًا على حبكتها. فقد اختار الكاتب استخدام أسماء "آدم" و"حواء" لجميع شخصيات الرواية، في محاولة منه لتجريدها من هوياتها الدينية والمذهبية والعرقية. لكن هذا الخيار، رغم نواياه الرمزية، أدى إلى إرباك في تصوير العلاقات بين الشخصيات. إذ أصبحت التفاصيل المرتبطة بمآسي كل شخصية وكيفية وصولها إلى المشرحة واضحة للقارئ، مما أفقد الرواية بعضًا من غموضها وجاذبيتها. علاوة على ذلك، جاءت الحوارات بين الجثث طويلة ومطولة، وكأنها تجري في إطار تقريري، مما ساهم في تهميش الشخصية الرئيسية، آدم الحارس، التي بدت هامشية في ما يقارب نصف حجم السرد. هذا الإسهاب في الحوار لم يضعف فقط حبكة النص، بل قلل أيضًا من تفاعل القارئ مع تطورات الأحداث، حيث كان من الممكن أن تكون هذه الحوارات أكثر إيجازًا وفعالية، بدلاً من استغراقها في تفاصيل قد تُشعر القارئ بالملل.و اخيرا، لم تحمل لنا الرواية سوى ثيمة الموت و ظلامية الواقع، فلا بصيص نور و لا فسحة أمل في الخلاص، من جملة الرواية الاولى إلى آخر سطر فيها حيث يخاطب آدم الصغير آدم الحارس: "لا أحد سيأتي يا آدم.. لا أحد سيأتي..أو ربما سيأتي أحد ما.. لا أدري..!."
يمكن القول إن "مشرحة بغداد" نجحت في تجسيد تجربة إنسانية عميقة، لكن قد تحتاج إلى مزيد من التوازن بين السرد وحوارات الشخصيات لتعزيز الحبكة. إن العزلة والمأساة التي جسّدتها شخصية آدم الحارس، تستحق أن تُروى بطريقة تبرز هذا الصراع الوجودي، باعتبارها محور الحدث، حيث يبدو آدم الحارس، للقارئ، عاجزاً عن رأب الصدع في اعماق نفسه، بدلاً من أن يكون مجرد متفرج، غير فاعل، في علاقته مع الشخصيات "الجثث" الأخرى في الرواية.