مراجعة لرواية "سقوط حر في حقيبة زرقاء" – شروق كمال
حين قررت قراءة رواية "سقوط حر في حقيبة زرقاء" للمرة الأولى، لم أكن أتوقع أن أُصاحب هذا الكم من الحنين والصدق الإنساني الذي تنسجه الكاتبة شروق كمال بخيوط من الألم والدهشة.
شروق كمال ليست كاتبة عادية، بل تمتلك حسًا لغويًا فريدًا وأسلوبًا أدبيًا رقيقًا يُلامس مشاعر القارئ، ويجعله يغوص في عمق النص دون مقاومة. الرواية جاءت على لسان "أميرة"، بطلتها التي تتحدث من الماضي والحاضر بصوت داخلي مشحون بالحساسية، ما منح الرواية طابعًا إنسانيًا واقعيًا مؤلمًا في آن.
لفتني ذكاء الكاتبة في اختيار أسماء الشخصيات، حيث تبدأ بحرف "أ" كرمز مرتب بدقة مع الذاكرة والخيال الطفولي لأميرة. كما كان لوجود الحقيبة الزرقاء – بما تحمله من صور وألبومات – رمزية خاصة، تُجسّد الحنين المختبئ خلف طبقات النفس، وتجعل من الذكريات بطلًا ثانيًا في الرواية.
بعد تشخيص أميرة باضطراب الشخصية الحدية، يصبح السرد أكثر تعقيدًا وعمقًا، إذ تبرز محاولاتها الدائمة للتوازن بين حاضرٍ متصدّع وماضٍ مثقل بالخسارة. الكاتبة أبدعت في التنقل العشوائي – المتعمّد – بين زمنين، في انسجام فني يُحاكي تشتّت الذهن عند الصدمات، خصوصًا بعد وفاة والدة أميرة وانتقالها لمنزل صغير فارغ من الروح والمحتوى.
اللغة في الرواية فصيحة بالكامل، خالية من العامية، لكنها بسيطة وعذبة، بعيدة عن التكلّف، وتحمل صدقًا نادرًا في التعبير. التوصيف الجسدي والنفسي للشخصيات، وتعابير الوجه، وحركات الجسد، جاءت كلها مرسومة بدقة شاعرية تُعطي للمشهد بُعدًا بصريًا وعاطفيًا لا يُنسى.
اللافت أيضًا، ظهور شخصية "السيد قاف" الغامض، والذي يجمع بين الواقع والافتراض، ويُشكّل لغزًا ممتدًا طوال الرواية. أما الجزء الذي يأخذنا إلى اليابان، فقد كان خروجًا مفاجئًا عن المألوف، لكنه مدروس بعناية، حيث تعرّف القارئ على ثقافة مختلفة، وأطعمة غريبة تُذكر لأول مرة، وكل ذلك تزامن مع استحضار أميرة لذكرياتها مع زوجها "سامح".
تُجيد شروق كمال استخدام التشبيهات بأسلوب مبتكر وذكي، يجعل من الجملة البسيطة نافذة عميقة إلى ما وراء الكلمات. الرواية ليست مجرد سرد لتجربة امرأة، بل هي تفكيك حقيقي لنفسٍ تبحث عن ذاتها وسط الخوف، والفقد، والحنين، ومحاولة للنجاة من جلد الذات والحياة البائسة.
رغم قلة الأحداث من حيث الكم، إلا أن الرواية نجحت في الحفاظ على إيقاع سردي متوازن، بفضل النضج الأدبي الذي تتمتع به الكاتبة، وحسّها الإنساني العميق. كل فقرة تحمل بداخلها روحًا تتقاطع مع تناقضات الحياة، وتُلقي بنا في دوامة الحب، والذات، والخوف، والوجع، حتى نشعر وكأننا نحن من نحمل تلك الحقيبة الزرقاء.
أما النهاية، فهي مفتوحة وغريبة بعض الشيء، لكنها منسجمة مع طبيعة الرواية التي ترفض تقديم إجابات جاهزة، وتدعونا لاكتشاف الذات في اللحظة التي نظن فيها أننا ضائعون..