صالون الحاتي وچيلاتي: حين يتكلم الحنين لغة الطين والموسيقى
في زمنٍ صار فيه الحلم يذوب في وهج الإسفلت، وتُخيط فيه تفاصيل الأيام بخيوط من تعبٍ وندم، تأتي رواية "صالون الحاتي وچيلاتي" لنهى شوقي حسين، لا لتقدم قصةً بالمعنى البسيط، بل لتستدعي وجعًا قديمًا كان ينام في أطراف القلب، عن المدينة، عن الإنسان، وعن هشاشة الفاصل بين الذاكرة والحاضر.
ببساطةٍ تشبه نغمة عود خافتة آخر الليل، تسير الرواية. تأخذنا إلى قلب مصر الجديدة، ذلك الحيّز الذي لم يعد كما كان، لكنه لم يمت بعد. هناك، حيث يلتقي العرق برائحة الخبز، وحيث تتمازج أنفاس الباعة بأحلام المارة، تتشكل الحكاية بين صالون الحاتي ونغمات الجيلاتي الباردة.
في قلب هذا الفضاء نصف الواقعي نصف الأسطوري، يظهر أدهم، المهندس الذي نزح عن العمارة نحو الطين الساخن وأدار كشك حاتي، كأنما يبحث عن ذاته بين الجمرات، وتأتي بيري، معلمة الموسيقى، التي تفتح نافذتها المجاورة بالكشك الآخر، لترسل أنغامًا تهدهد صراخ المدينة.
الرواية ليست عن قصة حب بالمفهوم العابر، بل عن حوار صامت بين اثنين حطمهما الزمن، وجمعتهما الرغبة الغامضة في أن يكون للحياة إيقاع آخر، أقل قسوة. حواراتهما اليومية، اللامستعجلة، تصير محاولة خافتة لفهم الفن، العمران، والمكان، لا بوصفهم مفردات جامدة، بل ككائنات حية تنزف وتكبر وتموت.
من تحت ركام الأحلام المؤجلة، يطلّ سؤال قديم بثوب جديد:
هل يمكن للإنسان أن يستعيد مدينته كما يستعيد لحظة حب ضاعت؟ أم أن الذاكرة خيانة جميلة؟
تحمل اللغة عبقًا شفافًا، كأن الجُمل نُسجت من خيوط الضوء والغبار معًا. الفصحى هنا لا تتكلف، بل تنساب كما ينساب الماء فوق الأحجار القديمة، عاكسة واقعية الشخصيات ودفئها، بعيدًا عن الزينة اللغوية الزائفة.
الشخصيات ليست مرسومة بالحبر وحده، بل بالعرق، بالخذلان، بالأمل الضئيل الذي يتشبث بحواف الأشياء. أدهم، ببساطته الوجودية، وبيري، بحزنها المضيء، يكادان يكونان امتدادين لكل أولئك الذين أرادوا ذات يوم أن يعيدوا بناء العالم، لكنهم أدركوا متأخرين أن العالم ليس مستعدًا دائمًا لأن يُعاد بناؤه.
ومع كل جمال هذه الرحلة، قد يشعر البعض أن تدفق المعلومات المعمارية والموسيقية، رغم عذوبتها، أثقل قليلاً كاهل السرد، وأبطأ الخطى حيث كان القلب يتلهف للركض خلف الحكاية.
أما النهاية، فلم تُغلق الرواية بقفل محكم كما يفعل الحرفيون، بل تركتها كما هي الحياة: مفتوحة، مبتورة قليلاً، واقعية حد الوجع، كأنها تقول بصمتٍ: ليس كل حلم يكبر، وليس كل حنين يُشفى.
"صالون الحاتي وچيلاتي" عمل صغير في حجمه، عميق في صداه، يرسم بهدوء صورة لعلاقة الإنسان بفنه ومدينته ونفسه، حين تغدو كل الأشياء ساحة واحدة للصراع بين الذاكرة والحاضر، بين الألم والرغبة في الإنقاذ.
لكن حين تُغلق الرواية صفحاتها، لا تشعر أن القصة انتهت.
تشعر أن شخصياتها لا تزال هناك، في تلك الأزقة الخافتة، تحت مصابيح الشوارع المنسية، تحاول أن تنقذ ما تبقى من الحلم قبل أن تلتهمه الخرسانة والزحام.
لا أدهم غادر كشكه، ولا بيري أغلقت نافذتها.
كلاهما ظل معلقًا بين زمنين: زمن كان يمكن أن يكون أجمل، وزمن لم يعد ينتظر أحدًا.
الرواية لا تمنحنا يقينًا ولا نهاية مريحة، لأنها تعلمنا أن الإخلاص للأحلام لا يعني بالضرورة انتصارها. وأن المدن التي نحلم بها في قلوبنا، غالبًا لا تعود. ولا نستطيع نحن أن نعود.
"صالون الحاتي وچيلاتي" ليس رواية عن الحب ولا عن العمارة ولا عن الفن، بل عن تلك اللحظة الحزينة التي ندرك فيها أننا كنا نصنع بيتًا من أغنية، ونزرع شجرة في حجر، ونبني صرحًا في ذاكرة مكسورة.
وفي النهاية، نكتشف أن الأوطان الحقيقية هي تلك التي بنيناها في داخلنا، لا تلك التي سرقها الزمن.