روايةٌ تحملُكَ منذ السطرِ الأولِ إلى عالمٍ من الغموضِ والثأرِ والفلسفة، كأنّك تسيرُ في متاهةٍ لا تعرفُ لها بدايةً ولا نهاية، ولكنّك لا تملكُ سوى أن تمضيَ فيها حتى آخرِ نفس.
❞«السّلامُ عليكم، أنا الدكتور أحمد عبد العظيم. أودُّ أن أبلغَ عن جريمةٍ اقترفتُها، حيثُ قتلتُ زوجتي وهذا الحقير المدعوّ كرم الجزار لخيانتهما. هل ستقبضُ عليّ وتسمعُ أقوالي؟ أم أذهبُ بلا عودة؟» ❝
هكذا تبدأُ ريم جمعة روايتَها؛ لا بتمهيدٍ ولا بمقدّمة، بل بقفزةٍ مباشرةٍ نحو الحدث، إلى قلبِ الجريمة، وتذهبُ أبعدَ من ذلك فتُعلنُ لنا القاتل منذ البداية! ولكن، لا تنخدع، فالروايةُ أبعدُ ما تكونُ عن البساطة.
في هذا النصِّ المتشابك، تُحكم الكاتبةُ قبضتَها على القارئ بسردٍ مشوق، وشخصياتٍ مشبعةٍ بالغموض.
حالةٌ أدبيّةٌ خاطفة، تجعلُ القارئَ لا يريدُ تركَ الروايةِ من يدِه إلا عندما يصلُ إلى كلمة: "تمّت".
رجلٌ يسعى خلفَ من كانوا يومًا أصدقاءَه، بثأرٍ مشوبٍ بالانتقامِ والخذلان، وهم من ظنّوا أنه مات... فمن إذًا يُلاحقهم؟
و"درويش" غريبٌ، كأنما خرجَ من أسطورةٍ، لا ينطقُ إلا كلمةً واحدة: "حيّ".
ما الذي يعنيه؟ ومن هو؟ وما علاقتُه بكلِّ هذا؟
تتفنّن ريم جمعة في اللعبِ بعنصرِ الزمن؛ فتأخذُكَ إلى الأمامِ قليلًا، ثم تعودُ بك إلى الوراءِ، تجعلكَ تبني افتراضاتِك، ثم تُخلخلها من أساسِها، حتى تكادَ تشعرُ أنك داخل متاهةٍ ذهنيةٍ تُشبهُ لوحاتِ إشر، حيث لا تدري أين الصعودُ من الهبوط.
من العناصرِ التي أعجبتني كثيرًا في الرواية، فكرةُ توظيفِ الرباعياتِ الشعريّة، التي تعملُ ليس فحسب كفواصلَ بين الفصول، إنّما أشبه ببساطٍ يُمهّد الطريقَ أمام القارئ لاستئناف الأحداث.
تلك الرباعيّات ذكّرتني بعبقِ كلماتِ وأشعارِ صلاح جاهين
لا في الأسلوب فقط، بل في الفلسفةِ التي تعكس عمقا في فهم الحياه والناس، فى رهافة المعنى وتدفق الإحساس.
لقد كانت تلك الرباعياتِ بمثابةِ إشاراتٍ روحيّةٍ وفكريّة أضافتْ للروايةِ بُعدًا شاعريًّا خلّابًا، وإن وُضعتْ في آخرِها "عَجبي"، وقرأَها قارئٌ في أيّ مكانٍ بدون اسمِ كاتبتِها، لن يُساورَه الشكُّ قطُّ في أنّ كاتبَها صلاح جاهين، لا محالة.
❞ قالوا ليك نصيب من الأفراح مقسوم
تاخده أول حياتك أو في آخرها يكون
لكن الرضا قرارك، أوعى على غيرك تلوم
من رحمة ربّنا بيك، إن قلت له: "كُن" سيكون ❝
تُعتبَر النهايةُ هي نقطةَ القوّةِ الرئيسيّة في الرواية.
فبعد أن يُطمئنَ القارئُ إلى تنبؤاتِه، تُفاجئه الكاتبةُ بنهايةٍ مُذهلة، تُغيّر من فهمِه للأحداثِ السابقة، وتُضيف بُعدًا جديدًا للقصة.
هذه النهايةُ المفاجئة ليست مجرّدَ خدعةٍ أدبيّة، بقدرِ ما تُعدُّ جزءًا لا يتجزّأ من بنيةِ الرواية، وتُبرّر الغموضَ والتشويقَ الذي سادَ طوالَ القصة.
في الختام :_
"فتشابَهَ وتشاكَلَ الأمر" ليست مجردَ حكايةٍ بوليسية، بل إنها رحلةٌ داخل النفسِ البشريّة؛ في الذنبِ والخيانة، عن القَدَرِ والثأرِ والانتقام، عن النخوةِ وماهيّةِ الرجولة، وعن جدوى الحياة.
روايةٌ تجعلكَ تسأل:
ما الذي يُشبهُ من؟
وما المصيرُ الذي تتشاكلُ خيوطُه؟
ومن يكونُ الإنسانُ حين ينقلبُ ظلُّه على نورِه؟