(عظمة الأدب ليست في القصة والتشويق فقط، العظمة الحقيقية عندما ينقل الأدب تحول المجتمعات والثقافة والعلاقات الاجتماعية، ويركز على الزمن والماضي والجذور)
ورواية غراميات شارع الأعشى هي رواية عن الحارة النجدية البسيطة في الزمن الماضي ، حيث تنبش الكاتبة في روايتها خفايا المجتمع السعودي المحافظ ، برسم تفاصيل الحياة ودقائقها وتستعرض جوانب من مراحل التطور الاجتماعي والسياسي والمتغيرات المصاحبة لكل مرحلة.
تتحدث الرواية عن نساء ورجال عاشوا في شارع الأعشى بالرياض نهاية السبعينيات ومستهل الثمانينات من القرن العشرين،وهم ممن أضاءت أرواحهم بكفاح الحياة الملون حين استطاعوا أن يتلمسوا طريقهم دون أن تلوثه التجاذبات السياسية الحرجة في ذلك الوقت لكنهم دفعوا ثمنها. أغلب أبطال الرواية نساء يحاولن العثور على معنى الحب عبر شق صغير يفتقنه في ثوب الظلام.
تسرد الراوية "عزيزة" حياتها مع أسرتها المكونة من والديها وأربع أخوات وشقيقين في بيتهم الواقع في شارع الأعشى الذي تصفه بأنه صندوق الدنيا، تعود إلى سنوات البراءة والحلم حين كانت بيوت الشارع متلاصقة وكأنها تعكس التكاتف الاجتماعي بين أهلها، ثم تسرب الغرباء إليه، وتعكيرهم صفو العلاقات السائدة بالتزامن مع التغييرات التي اجتاحت أبناءه أنفسهم.
ترغب عزيزة في أن تحظى بحياة مختلفة عن قريناتها وسابقاتها، ذلك أن الحياة المرسومة للمرأة في محيطها لا تعجبها، وهي المولعة بالأفلام المصرية وتحاول التماهي مع بطلاتها ممن يحرضن لديها روح المرأة الثائرة، لكنها تصطدم بالقيود الكثيرة التي تكبل حركتها وتكبت تفجر ثورتها، وتبقيها أسيرة واقعها بأحكامه المسبقة وأحلامه المجهضة.
يحتل التمرد دورا كبيرا في الرواية، لكن شخصياتها المتمردة تصطدم بسدود الواقع الكثيرة، فعزيزة المتمردة على كل ما حولها تتعلق بطبيب مصري وتنوي الهروب معه، لتغييرها لواقعها.
من صور التمرد أيضا، زواج مزنة ابنة وضحة من شاب فلسطيني مقيم في الرياض، ومعارضة أهلها ذلك، ثم تنكرهم لها، ومقاطعتها بعد إصرارها وزواجها.
وأخوها ضاري أيضا نموذجا رجوليا للتمرد، فيتمرد على سلطة المدرسة والأخ والأم، وفي ظل غياب الأب واختيار أخيه متعب دور البدوي الطيب، يختار ضاري شخصية تتوافق مع الواقع الذي يكون فيه، يجسد اسمه والضراوة التي يشتمل عليها.
وتأتي صورة "عطوى"-التي تنشأ في كنف زوج أمها- كتعبير عن حالة الضياع وعدم الاكتراث فتهرب إلى الرياض، لتتعرف إلى "أم جزاع" التي تكفلها، وتعيدها إلى حياتها الطبيعية.
رسمت الكاتبة بقلمها صورا بالغة الدقة للمظاهر اليومية الحياتية للعصر التي كانت تعيش فيه شخصيات الرواية:
- فسطح بيت عزيزة يشهد أنشطة مختلفة، يكون تارة مسرحا تمارس فيه الفتيات أنشطتهن بعيدا عن أعين المتلصصين، كما قد يكون محطة للقاء العاشقين، كلقاء أختها عواطف بابن الجيران سعد، وتسهيل عزيزة تلك اللقاءات المسترقة، وكأن ذاك السطح كان يشف عن كل ما تخبئه السطوح عادة أو تتكتم عليه، كائنات السطوح تحلم بتحقيق أمانيها التي يحطمها الواقع تاليا.
- وبالحديث عن السوق وآليات التعامل والمتاجرة فيه، تحضر وجوه الباعة والتجار المختلفة، فسوق الحريم يحظى بأهمية لافتة، وتأتي الأسواق التالية مكملة للمشهد العام، وفي السوق تنشط التعاملات والمساومات، كما تنشط العلاقات الغرامية تحت غطاء البيع والشراء.
- ترصد الكاتبة تأثير وسائل الاتصال والإعلام على الناس، تنتقل من وصف حالهم وهم يتفرجون على التلفزيون الأبيض والأسود إلى تفاجئهم بالتلفزيون الملون، ومصاحبتهم للمذياع والإشارة إلى دوره، ثم دخول الهاتف الأرضي إلى البيوت، وإحداثه نوعا من الزلزلة بين الناس من حيث تسهيل التواصل والتحادث، والتمهيد لعلاقات تالية أو التخفيف من حدة التوترات والمشقات التي تحول دون التلاقي.
- ترسم كذلك حالة الناس مجتمعين للتفرج على سينما صيفية، حين كانت تنصب شاشة في الهواء الطلق، وتكون الطقوس المرافقة نوعا من الاحتفال الشعبي ومناسبة للسهر والرفقة.
تلتقط الكاتبة بذور بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية التي احدثت شروخات عميقة بين أبناء المجتمع:
- كحالة التشدد التي بدأت كحلقة صغيرة، ثم اتسعت دائرتها لتطال الحرم، وتصل إلى درجة احتجاز الحجاج والمصلين فيه في حادثة شهيرة عام 1979 وقع ضحيتها المئات وأريقت فيها دماء كثيرة.
- ظاهرة العنف الذي صار سمة عامة متفشية، وضاعف من التعنيف الذي كان يكبّل النساء والغرباء، فاقم اغتراب الشخصيات عن واقعها وسلبها راحتها.
لجأت الكاتبة إلى تقنيات سردية متنوّعة، مثل الفلاش باك والحوار الداخليّ، مما أضفى ديناميكية على السرد، وجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الأحداث مع الشخصيات، مما ساهم في خلق عالم روائيّ ثريّ، يعكس صوراً من العالم الواقعيّ في الوقت نفسه.
أولت الكاتبة اهتماما كبيرا في رصد الأصوات ، حيث يكون لها حضور مختلف وتأثير كبير في مجتمع منغلق تتشاهق فيه الحواجز وتعلو الجدران العازلة بين الناس، فمتعة التنصت لا تقل تأثيرا عن متعة التلصص في واقع منغلق، فالصوت المتناهي إلى الآخرين من الشارع قد يحمل إشارة ما، بشارة أو إنذارا.
وصوت ابن الجيران أو نحنحته تختصر كلاما أو تضرب موعدا، ثم صوت الطبيب الذي لا تراه عزيزة بداية يشي لها بصورة معشوقة مفخمة، ومع دخول الهاتف يتحول الصوت إلى عامل متحكم في الخفاء، يخترق البيوت والنفوس، وذلك مع التذكير بالأصوات المتصادية في الشارع، سواء كانت أغنيات أو أناشيد دينية أو تلاوة للقرآن الكريم.
ولم تكتف الكاتبة بتصوير أصوات مسموعة فقط، بل تراها تتخيل أن للنميمة صوتا صاخبا، وأن للضمير صرخة مدوية، وأن للحب صوته المبحوح المدمر، ناهيك عن أصوات الدواخل الصداحة التي تسير الشخصيات وتتحكم بالمصائر.
" غراميات شارع الأعشى " رواية شيقة ماتعة تتناول حقبة مفصلية من التاريخ. نفهم منها المجتمع السعودي قبل حقبة التطور الحديث وكيف تغيرت الاحوال الاجتماعية للناس. بأسلوب أدبي يأسرنا حتى الصفحات الاخيرة من الرواية.
#د_ماجد_رمضان