🔶️🔸️ مراجعة رواية "العاوون" للكاتب السوري "اسلام أبو شكير".
تتحدث رواية "العاوون" عن طفل صغير يأتي إلى هذا العالم حاملًا على ظهره الطري جناحان فتيّان، لايلبث أن يرفرف بهما محاولاً شقّ الأفق إلى سماءٍ واسعة.
ومنذ اللحظة التي تبدأ فيها أنامل المجتمع الباردة في لمس أجنحته الرقيقة، تبدأ رحلة التلاشي. يُطلب من هذا الطفل أن يمشي على الخطوط المستقيمة، خطوط الخوف والانصياع، حيث لا مكان للطيران أو للمس السماء بأطراف الأصابع. تنهال عليه الأوامر الصوارم وتوصد أمامه كل الأبواب خشية طيرانه وهروبه، وتُفرض عليه القوانين، وتقيّده الأحكام تقييداً صارماً، وتُقصّ قصاصات الخيال من سماء فكره لتحولها إلى ألوانٍ باهتة.
من خلال صفحات "العاوون"، نرى كيف تتلاشى أحلام "الصغير" من كيانٍ مشابهٍ لقوس قزح إلى شفقٍ مغيّبٍ تحت نير الواقعية القاسية. يغرق الطفل بين متطلبات المجتمع التي تضغط بشدة على جناحيه الهشّين، فتتكسّر بعض الأحلام، أو كلها، دون إدراكٍ لآلام انكسارها. يجد نفسه في دوامةٍ من التكتلات الإجتماعية التي تربط الفكرة بالحجر وتأبى تفجير طاقات الإبداع في بحرٍ من الإحباطات.
يلعب الشرطي "أبو محارب" دوراً مزدوجاً في الرواية، فهو ، من ناحيةٍ، ساهم في خنق إرادة الطفل بالطيران وعلّم أهله استدراجه إليهم مستلهماً فنون الصيد التي يبرع بها، كما نبّه أهل الطفل إلى ضرورة قصّ جناحيه كيلا يغافلهم بطيرانٍ بعيد، ولكنّه من ناحيةٍ أخرى أثبت أنّه ساهم في الحفاظ على جناحي الطفل من استئصالٍ وشيك، وهذه إشارةٌ دامغة إلى دور رجال الشرطة إمّا في قمع أفراد المجتمع أو صون حرّياتهم.
في هذه الرواية يدرك رجل الشرطة قبل غيره قيمة الحرية والاختيار، وأن يُتاح لكلّ فردٍ التعبير عن نفسه واختياراته ومساراته الخاصة، فمثلاً: لم يؤلم "أبا محارب" أنّ المجتمع قصّ له جناحيه في طفولته، بل أكثر ما آلمه أن وضعوا له خرقةً في فمه كيلا يصيح ويعبّر عن رفضه. لم يؤلمه أن فقد قدرته على التحليق بقدر ألمه في فقده القدرة على التعبير ومُصادرة كلمته.
هذه الرواية تضجّ بالمشاعر، تثبت لنا أنّ الحلم والعزيمة قد ينكسران تحت وطأة التقاليد المجتمعية الصارمة، ومع ذلك، وبين الحطام، يبقى شيءٌ ملتهبٌ يتّقد في داخل كل فردٍ منّا، شعلةٌ صغيرةٌ ترفض الانطفاء، تهمس لنا بأن سّماء الفكر والحرية والإبداع ما زالت هناك، وفي انتظار عودتنا إليها.
إذاً "العاوون" ليست مجرد روايةٍ عن طفلٍ وأحلامه؛ إنها انعكاسٌ للكثيرين منّا الذين جوبهوا بقسوة العالم، وقد قيّدت معايير مجتمعيّة ميولهم الفطرية وشغفهم الحقيقي، وهي أيضاً دعوةٌ لنا لنحمي أجنحة الأطفال في دواخلنا، ونجعلها تحلق بعيداً، مجدّداً في سماء الحرية. دعونا نتعلم، نحن أيضًا، أن نحافظ على هذا الجزء من أنفسنا الذي يملك القدرة على أن يتخيّل، يحلم ويخلق عالماً أفضل.
☆☆ مقتبسات من الرواية:
❞ لم يعد بين الناس من يمتلك الوقت لينظر إلى الأعلى بحثاً عن شخصٍ طائر. رؤوسهم جميعاً إلى الأسفل. إلى الأسفل فقط. يبحثون عن لقمة الطعام.. في هذه الأيّام، قطعة خبزٍ يابسة في كومة قمامة هي ثروةٌ أيّها الصغير ❝
❞ الألم بصمتٍ هو أسوأ أنواع الألم أيّها الصغير.. وأقساها.. وأشدّها شراسةً وتوحّشاً.. أبشع ما فيه أنّ له جذوراً تنغرس عميقاً وبعيداً، بحيث يستحيل التخلّص منه بعدئذٍ. ❝
● العاوون.
● اسلام أبوشكير.
● دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع 2022.
● 124 صفحة.