باولا > مراجعات رواية باولا > مراجعة Mohammed Makram

باولا - ايزابيل الليندي, صالح علماني
تحميل الكتاب

باولا

تأليف (تأليف) (ترجمة) 4.5
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

المستشفى بناء ضخم تقطعه الممرات. وليس فيه ليل ولا تبدل في درجات الحرارة على الإطلاق. فالنهار متوقف في المصابيح والصيف في المدافئ. الروتين يتكرر بدقة جنونية. إنها مملكة الألم. فالناس يأتون هنا ليتألموا. هذا ما ندركه جميعنا. إن بؤس الأمراض يساوي بيننا. فلا وجود فيه لأغنياء ولا فقراء. ما إن يجتاز أحدنا عتبانه حتى تتلاشى الامتيازات ونتحول جميعنا إلى كائنات ذليلة.

بدأ الأمر في المستشفى عندما جلست إيزابيل الليندي بجوار ابنتها التي دخلت في غيبوبة دامت لعدة شهور و اقترحت عليها مساعدتها أن تكتب لباولا ربما تجد في الكتابة عزاء فاختارت الليندي أن تكتب لابنتها السيرة الذاتية لأسرتها التي اختلطت فيها الدماء الأوروبية بالدماء الأمريكية و كان لها الكثير من الحكايا الطريفة و الأحداث المؤلمة كذلك منذ الهجرة من أوروبا و حتى الاستقرار في تشيلي ثم المنفى الاختياري في فنزويلا بعد الانقلاب العسكري للجنرال بينوتشيه و الهجرة بعد ذلك للولايات المتحدة في رحلة امتدت لأكثر من نصف قرن من الأحداث.

كنت أشعر على الدوام بأني مختلفة. ومنذ وعيت على الدنيا كنت مهمشة. فلم أكن أنتمي فعلاً إلى أسرتي. وإلى وسطي الاجتماعي. وإلى جماعتي. وأظن أن هذا الشعور بالعزلة هو الذي يولد الأسئلة التي تدفع إلى الكتابة. ومن خلال البحث عن الاجابات تولد الكتب.

بالرغم من تخلي إيزابيل عن الإيمان بالله في مرحلة الاستقلال من حياتها إلا أنها ظلت تلجأ عند الشدائد لربة من اختراعها و من وحي خيالها تدعو لها و تطلب منها أن تعينها. ربه تتسع رحمتها للجميع. من يؤمن بها و من لا يؤمن بها كما أنها ربه لا تطلب منها شيئا و لا تكلفها بشيء و لا تعدها أيضا بأي شيء. رغم تخليها عن فكرة وجود إله إلا أنها ظلت تؤمن بقوة الأحلام و الأرواح و بعض الخوارق و كافة أنواع الشفاعات من كافة البشر.

إنني أعيش حياتين اثنتين. إحداهما وأنا مستيقظة والأخرى وأنا نائمة. هنالك في عالم الأحلام مناظر واشخاص صرت اعرفهم. إنني استكشف فيه الجحيم والفردوس. أطير في سماء الكوكب السوداء وأنزل إلى أعماق البحر حيث يخيم الصمت الأخضر. وأجد عشرات الأطفال من كل الأجناس. وأجد كذلك حيوانات مستحيلة وأشباح رقيقة لأقرب الموتى إلى قلبي. لقد تعلمت على مر السنين حل رموز أسفار الأحلام وفهم أسرارها. والرسائل الآن أشد وضوحاً وهي تفيدني في اضاءة المناطق الغامضة في الحياة اليومية وفي الكتابة.

و في المستشفى تقبلت كافة أنواع الشفاعة و الرقى و التمائم من الجميع.

لا تفزعي يا باولا. فهم لا يرقصون والريش يغطي أجسادهم. ولا يقطعون رؤوس ديكة ليرشوك بالدم. وإنما هم يهوون قليلاً فوقك ليحركوا الطاقة السالبة. ثم يضعون أيديهم على جسدك ويغمضون أعينهم ويركزون. يطلبون مني أن أساعدهم. أن أتصور شعاع نور يدخل عبر رأسي. ويمر عبر جسدي ليخرج من يدي باتجاهك. وأن أتوقف عن البكاء وأتخيلك معافاة. لأن الحزن يلوث الجو ويُقلق الروح.

و عندما عادت بابنتها إلى كاليفورنيا لم تتورع عن مد اليد لكافة أنواع المحتالين لعل شفاء ابنتها يكون في ذلك.

أحدهم يبيع فرشات نوم مغناطيسية من أجل النشاط. ومنوم مغناطيسي يسجل حكايات مقلوبة ويُسمعها لباولا بواسطة سماعات أذنين. وقديسة من الهند تجسد الأم الكونية. وأباتشي يمزج ما بين حكمة اسلافه وسلطة الزجاج. ومنجم يكشف المستقبل.

و كذلك تنظيفها لمكان عملها و عمل زوجها بالسائل السحري لعل ذلك يجلب لهم الرزق و تفاؤلها بيوم معين للكتابة.

بدأت بكتابة عن الحب والظلال في الثامن من كانون الثاني ۱۹۸۳ لأن هذا اليوم جلب لي الحظ في رواية بيت الأرواح. وهكذا دخلت تقليداً مازلت أحافظ عليه وأخش تغييره. فدائماً أكتب السطر الأولى من كتبي في هذا التاريخ.

عملها كصحفية ساعدها على الكتابة فيما بعد و مقابلة صحفية بالصدفة البحتة لزوجة خائنة اعترفت تفصيليا بخيانتها كان سبب شهرتها الأكبر في عالم الصحافة.

لم يغفر الجميع لبطلة المقابلة قولها إن دوافعها إلى الزنا هي الدوافع نفسها لدى الرجل: انتهاز الفرصة. الضجر. الحقد. الدلال. التحدي. الفضول. السيدة التي قابلتها لم تكن متزوجة من سكير متوحش ولا من مقعد على كرسي ذي عجلات. كما إنها لم تكن تعاني عذابات حب مستحيل. ولم تكن ثمة مأساة في حياتها. وإنما كانت تفتقر بكل بساطة إلى مبررات الحفاظ على الوفاء لزوج يخونها بدوره.

و لا تتحرج إيزابيل في هذه السيرة الذاتية عن كشف كل نقاط ضعفها بأسلوبها الجميل و الظريف الذي يكسر جو الكآبة في الأحداث.

وهكذا تعلمت بعض الخدع التي أفادتني في كتابة الروايات فيما بعد. وبعد عشر سنوات من ذلك. عندما كتبت بيت الأرواح. تذكرت تلك الجلسات حول الطاولة في المسرح وسعيت لأن تكون لكل شخصية سيرتها الحياتية الكاملة. وطابعها المحدد وصوتها الخاص.

الكتابة تريحني. بالرغم من أنها تكلفني الكثير. لأن كل كلمة هي أشبه بجمرة حارقة. فهذه الصفحات هي رحلة لا رجعة عنها في نفق طويل لا أرى له مخرجاً. ولكنني أعلم أنه موجود. من المستحيل الرجوع إلى الوراء. فالمسألة كلها تتمثل في مواصلة التقدم خطوة خطوة حتى النهاية. إنني أكتب بحثاً عن إشارة. آمله أن تكسر باولا صمنها المطبق وترد علي دون صوت في هذه الأوراق الصفراء. أو ربما أنني أكتب لكي أتجاوز الرعب واثبت الصور الشاردة من الذاكرة الضعيفة.

في النهاية لا يسعنا إلا التسليم باللحظة الحاضرة. نعيشها بكل جوارحنا. و نحاول استخلاص المغزى منها لعلنا ندرك بعض ما فاتنا.

أحاول عدم التفكير بالغد. فالمستقبل غير موجود كما يقول هنود الهضاب الذين لا يرون إلا الماضي لاستخلاص العبر والمعارف. أما الحاضر فهو مجرد وميض. لأنه يتحول إلى ماض في لحظة احدة.

إنها لعجرفة كبيرة من جانبي أن أتصور أنك ترقدين في هذا السرير من أجل أن نفهم. نحن الذين ننتظر في ممر الخطى الضائعة. بعض العبر. ولكن هذا هو ما أتصوره في بعض اللحظات في الواقع. ما الذي تريدين تعليمنا إياه يا باولا؟

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق