سنوات الجري في المكان > مراجعات رواية سنوات الجري في المكان > مراجعة ناصر اللقاني

سنوات الجري في المكان - نورا ناجي
تحميل الكتاب

سنوات الجري في المكان

تأليف (تأليف) 4.2
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

■ سنوات الجري في المكان

(تجريبة إطلاق الحواس وتجاوز أوراق وأحبار الكتابة وهدم الحائط الرابع)

تقدم لنا الرواية أبعاداً حسية فريدة ووسائطَ متعددة، فيها النظر والتذوق والسمع والشم واللمس، تتجاوز أوراق وأحبار الكتابة، من خلال مقاطع أدبية بديعة وبارعة، متتبعة سنوات الرحلة من ثورة منحتنا كل الأحلام ثم أيام تجيء فتسحب منا أحلامنا واحداً تلو الآخر وتسحب معها حواسنا، إلى وباء أفقدنا ما تبقى من الحواس، وعبث صخرة سيزيف الذي أصبح يلف واقعنا، فما زلنا نلهو بالصخرة غير عابئين بعبثها، في غياب الحواس الواعية وتحت وطأة تيه العقل والوجدان.

بدأت رحلة الجري في المكان من محطتها الأولى مع الألوان، فلكل لونٍ معنى وشخصية، وأحاسيس متفردة وأغنية، وفستان وقُبَّعة، رأينا "الأزرق" في كشفه وتوهانه - و"الأسود" في حزنه وطغيانه - و"الأحمر" في غضبه وخوفه - و"الأخضر" في براءته وكذبه - و"البرتقالي" في زهوه ونقصانه - و"الرمادي" في غموضه وتناقضاته - و"الأبيض" في ثباته واستغنائه، فكأنها قُبَّعات الحياة السبعة التي نجد أنفسنا نرتديها.

ثم انتقلت الرحلة إلى محطتها الثانية مع المذاقات، من خلال دفتر يوميات جعلنا نشعر بمذاق "الموت" بصدئه ومساخته - ومذاق "الدفء" بعذوبته ونشوته - ومذاق "الذكرى" بنكهاته ومراوغاته - ومذاق "الخوف" ببرودته وجزعه - ومذاق "اللا شيء" بزيفه وعدميته، فكأنها أصناف طعام مائدة الحياة التي ليس أمامنا إلا تناولها.

ثم انتقلت الرحلة إلى محطتها الثالثة مع الأصوات، من خلال معرض فنان جعلنا ننصت إلى صوت "الرسائل" بخفوته وآماله - وصوت "الموت" بخلاصه وتكراره - وصوت "المترو" بنوستالچيته وثباته - وصوت "الهتاف" بجموحه وجلاله - وصوت "الأغاني" بشوقه وحنينه - و"صوتها" بأمانه وملاذه - و"صوتك" بازدواجه ومساراته، فكأنها سيمفونية الحياة امتزج فيها الطرب مع النشاز ولا بد من أن نعزفها إلى آخرها.

ثم انتقلت الرحلة إلى محطتها الرابعة مع الروائح، من خلال مسرحية جعلتنا نشم رائحة "الدماء" أصل العالم وسر الوجود - ورائحة "الجِلْد" مَنْبَعُ نهر الزخم ومصبه - ورائحة "العرق" بحر التكرار - ورائحة "القلب" بستان الأضداد - ورائحة "الدموع" وادي الصخر والملح، فكأنها حديقة العالم حين اختلطت فيها كل الروائح.

ثم انتقلت الرحلة إلى محطتها الخامسة مع حاسة اللمس التي تلتقي عندها كل الحواس الأخرى، فنجد أنفسنا داخل بانوراما أطلقت كل الحواس من مكامنها وجعلتها تعمل في آن واحد، ونكتشف أن كل ما قرأناه من أول الرواية هو من أصل رواية "نانا" الأخيرة.

بعد أن امتلأت حواسنا بحكايات سعد مع البصر والألوان، ومصطفى مع السمع والأصوات، وياسمين مع التذوق والطعم، ويحيى مع الشم والروائح، ونانا مع اللمس والملمس، نجد أن هذا الجزء الأخير قد أدخلنا في حالة إبداعية فريدة وساحرة، إذ نفاجأ بمقاطع قص ما ورائي أو "ميتا سرد" تطل علينا من بين صفحات الكتاب.

انفجار تجريبي مدوٍ يهدم الحائط الرابع في الرواية والذي هدمه "بريخت" في المسرح منذ قرابة قرن من الزمان، فقد هدمت الكاتبة الحائط الرابع وتحدثت مع القارئ وعرضت عليه تصورات واحتمالات وأطلعته على البدائل قبل اتخاذ القرار، فوجد القارئ نفسه متورطاً بلا خط رجعة، وشريكاً في الكتابة ومسئولاً عنها، والكاتبة ترقب تورطه، درافتات وشخصيات وزوايا تناول وهوامش وتمارين كتابة.

في النهاية نصل إلى السطر الأخير للكتاب فنجد الرواية أوشكت أن تبدأ، ثم نجد أنفسنا قد عُدنا إلى سطره الأول، لنقرأ تلك الرواية.

من يريد أن يحيا التجريب في أبهى وأزهى وأروع صورة، فعليه أن يرى ويتذوق ويسمع ويشم ويلمس "سنوات الجري في المكان".

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق